العيطة .. التاريخ المنسي للفن المغربي

إن كل مجتمع له ثقافته وتقاليده يُضحّي بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ عليها، سواء كانت تلك التقاليد أعمالاً يقوم بها أو حتى غناءً؛ فالمغرب يزخر بعدة أنماط موسيقية مختلفة، تتنوع بتنوُّع تضاريسه الجغرافية، وتتوزع بحسب مناطقه.. فمن الموسيقى الأمازيغية وموسيقى “ڭـناوة”، إلى الموسيقى الشعبية.. تنقسم إلى موسيقى فرعية إقليمية، حديثة وتقليدية، وتُغنّى باللهجتين الأمازيغية والعامية المغربية. تعرّفوا إلى المغرب عبر موسيقاه، ولعل من أبرز تلاوينها موسيقى العيطة التي سنتحدث عنها في هذه التدوينة.
 
العيطة؛ فن مغربي ظهرَ قديمًا قبل القرن التاسع عشر، لكنها ظهرت بشكل كبير وتبلورت كفنّ قائم الذات بقوة في فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب، حيث كانت العيطة عبارة عن شكل مقاومة ضد المحتل الفرنسي. العيطة هي ضرب من ضروب الغناء يعتمد بالدرجة الأولى على أشعار تحمل معاني مشفّرة لا يفهمها إلا أصحاب الأرض كنوع من شفرات (رموز) سرية بين المقاومين من النساء والرجال ضد العدو.
لكن مفهوم كلمة العيطة تعني “النداء”، في مفهومه الأصلي أي استنجاد بالقبائل والسَّلف لبعث الحماس في نفوس الرجال وإحياء هِمَمِهم، وفي هذا الصدد يقول الشاعر المغربي عبد الرحمان المجدوب: “عيطت عيطة حنينة فيقت من كان نايم فاقوا قلوب المحنة ونعْسو قلوب البهايم”.
أما العيطة اصطلاحاً؛ فهي عبارة عن مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية الممتزِجة في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع وأنماط العيطة نفسها. إذ تُعتبر فرعاً أساسياً من فروع الموسيقى المغربية عموماً، والموسيقى الشعبية المغربية خصوصًا؛ ولقد كان لها دور كبير في ردع الاستعمار، لا سيما من طرف “الشّيخات” اللواتي يعتبَرن من بين أكثر الفئات مزاولة لهذا الفن، وهم عبارة عن نساء يَقُمْن بغناء مقطوعات موسيقية. ولمعت أسماء بارزة في هذا المجال، كأمثال: الشيخة “خربوعة” التي ازدادت في ثلاثينيات القرن الماضي وترعرعت في منطقة قبائل زعير الغنية بثرواتها الطبيعية والفلاحية وكذلك بموروثها الثقافي المتميز والمتنوع، خاصة في مجال فن العيطة؛ وكذلك الشيخة خديجة مركوم التي برز اسمها بقوة في سماء هذا الفن التراثي الأصيل من خلال خامَتها الصوتية، ولقد ترعرعت في منطقة “حد حرارة” ضواحي آسفي، حيث بدأت مسارها الفني في منتصف السبعينات، وكذلك الشيخة “خربوشة” التي نطقتْ باسم انتفاضة قبيلتها ضد جبروت قائد محلي، ومن بين أشهر أقوالها، نورد المقطع التالي:
” بغيت السيبة
ما بغيت احْكامْ
من دابا ثمانية أيامْ
على السي عيسى الثمري.
…   سير آ عيسى بن عمر أوكال الجيفة
أقتّال اخُّوتُو املل الحرامْ
سير عمر الظالم ما يروح سالم
وعمر العلفة ما تزيدْ بلا عْلام
ورا حلفت الجمعة مع الثلاث
يا عْويسَه فيك لا بْقـات.”
لم تكن العيطة بالمغرب حِكراً على فئة الشيخات فقط، بل يبدو مفيداً ذكرُ أنّ فئة من الرجال اشُتهرت أيضاً، عددٌ كبير كأمثال: صلاح البوعزّاوي، الذي يعتبر من بين الذين أسّسوا فِرقة “ولاد البوعزاوي”، وكذلك جمال الزرهوني وهو أحد أبرز نجوم العيطة وروّادها، وهو ابن عاصمة هذا الفن ومهدِها وهي مدينة آسفي.
أما طقوس هذا الفن “العيطة” فهي تعمد على الفرقة الغنائية “المغنيّة”؛ حسب تعبير أهل دكالة والسّهـول المجاورة لها، إلى حط الرحال في وضح النهـار قبل أذان العصر في دُوّار من الدواوير حتى تتمكن الفرقة والجمهور بالاستعداد للحفل، وكما تتعمّد الفرقة بالنزول قرب أحد الكُرَماء أو المُحبّين في خيمة تدعى “الڭيطون” بالدارجة المغربية، وعند غروب الشمس وبعد انتهاء أهل القرية من الأعمال اليومية تبدأ استعدادات الفرقة بإشعال النار لتسخين الآلات الموسيقية خصوصا الدفوف “البنادير” التي تكون مصنوعة من جلد الماعز، ثم يبدأ قائد الفرقة الذي يُطلَقون عليه اسم “القوابزي” بالعزف على آلة الكمان “كمنجة” والناي.
يبتدئ الحفل الذي يحضُره حشد غفير من محبّي هذا الفن الغنائي، قبل أن يأتي أهل القرية بوجبة العَشاء والشاي.. وأما النساء فيُخصّص لهن مكان خاص بهن بمعزل عن الرجال.
تختلف أنواع العيطة باختلاف السهول الوسطى للساحل الأطلسي بالمغرب “الشاوية ودكالة عبدة” بالأساس، مروراً ببعض المناطق المجاورة (“الحوز” و”زعير” بالخصوص). وقد صنّف العارفون والمهتمون بهذا الفن الشعبي العيطة إلى ثلاثة أشكال رئيسية هي:
  1. العيطة المرساوية
  2. العيطة الجبْلية
  3. العيطة الحَوْزية
توجَد أصنافٌ أخرى، لكن تظل هذه الثلاثة المذكورة هي أشْهرَها على الإطلاق.. وخلال العقود الأخيرة، قلَّ رواد هذا الفن والمهتمون به سواء دراسة أو سماعاً، خصوصاً مع انتشار أغاني الشباب التي يكون هَمُّ أصحابها هو الشهرة؛ مما يجعل اهتمامهم مُنصَّباً على الصعود فوق موجة الشهرة حتى وإنْ كان ذلك الذي يدَّعُون أنه “فن” لا يمُتّ للفن الأصيل بصلة لا من قريب ولا من بعيد!
 

مدونة زوايا

زوايا فريق شاب مؤلف من 10 شباب عرب مختلفي التخصصات والاهتمامات و غزيري الأفكار يجمعهم حب التدوين والرغبة في إثراء الويب العربي بمحتوى مفيد فريق زوايا ذو أفكار خلاقة وعزيمة متأهبة يعدكم بمحتوى مدوناتيٍّ أقل ما يقال عنه أنه استثنائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *