حوار مع ابنتي المستقبلية

عن حكاية وباء ضرب العالم عام 2020

كانت وسيمة سمراء مثل أبيها، وعلى إثر ذلك كان حرصي عليها يشتد، سيما من “الذئاب الآدمية” المتسكعة والمتشردة، وحتى الصنف الآخر الذي يبدو ظاهريا مروضا وأنيقا، فقد كانت لينا محبة للسؤال بل وتقدسه وتعتبره أساس الوجود، ببساطة كانت تشبه أباها في كل شي ما عدا شعرها الناعم والكثيف، لذلك لم تكن تتركني كلما سنحت لها الفرصة بمشاغبتها الفكرية المثقلة بالأسئلة المحرجة والمبررة بحبها للمعرفة.

وفي يوم ما من سنة 2040 في فصل الربيع إن لم تخني الذاكرة، كنا حينها بجولة خارج المجال الحضري تلفنا الورود، فجأة سرقت لينا النظر خلصة بعدما رأتني بمعية أمها أداعب خصلة شعرها بعدما اشتد حنيننا إلى الماضي البعيد، ولم تجد لينا فرصة لطرح أسئلتها إلا في تلك اللحظة الحميمية، وقد قاطعتنا بسؤال ويا ليتها لم تطرحه، قالت أبي لماذا تحدق بطريقة غريبة حول الورود في حين أنت تداعب وردة خيرا من كل الحقول، لو لم أمسك بيدي أمها لسمعتم صراخ لينا تحتج لقمعها في حرية التعبير عبر طرح سؤالها، وحاولت أن أنسيها لكن أصرت على سؤالها، وأُجبرت محرجا وفي نفس الوقت متألما على سؤالها، بالقول أصغي أيتها المشاكسة، فالورود أينما كانت وكيفما كانت تبقى مجرد انعكاس لصورة أمك، هاته الأم يا ابنتي تعرفت عليها في زمن الأوبئة والجفاف، زمن ليس كغيره من الأزمنة وما واكبها من معاناة، لذلك أراها وردة قد نبتث في صحرائي القاحلة، لذلك فحدود بصري لا تمتد أكثر.

قالت لي وسمات وجهها تعتليها ابتسامة صفراء فاقع لونها: لا أشك في مقياس حبك لأمي لكن رؤيتك للورود بتلك الطريقة أثارت انتباهي وكلامك هذا وإن كان حقيقة يبقى ناقصا غير كاف، ماذا تخبئ ويجعلك تتلعثم وتجتنب الوقوع فيه، وقد أقنعتني بالسرد والذي لم يعرف فيه لساني تلعثما ولا حتى حروفي الأبجدية التي ستغرقكم، وستمر أحيانا متسرعة دون احترام شروط أدبيات اللغة، قلت لها بعد 20 سنة مضت وفي نفس هذا الشهر أي بتاريخ مارس أو أبريل لسنة 2020، كانت مدة زمنية مفصلية في حياتنا فبقدرما كانت قاسية ومؤلمة ومحزنة، بقدرما كانت سببا في معرفة أم الورود، وردتي التي لم تذبل بل أثمرت لي وردة صغيرة مثلك، فقد مر علينا زمن يا بنيتي اختلت فيه سلوكياتنا الاجتماعية واختلفت عادتنا وتنكرنا لتقاليدنا الثقافية، زمن جعلنا نستنفر من بعضنا البعض، وكان كافيا أن يكسر منطق كون أن الإنسان كائن اجتماعي، فالكل أصبح منطويا ومنعزلا عن الآخر، بل ويعتبر الغير عدوا مفترضا يمكن أن تكون نهاية حياته على يده، فقطعت فيه صلة الأرحام، وأفرغت فيه الشوارع وأصبحت المدن مهجورة منكوبة، وأغلقت أبواب المساجد وأوقفت أجراس الكنائس والمعابد، علقت فيه المدارس والجامعات، تم توقيف الملاعب والمسابقات الرياضية، وقطعت فيه المجالات الجوية والبحرية والبرية، وشلت فيه الحركة عالميا، وانهارت الاقتصادات، وارتفع منسوب الهلع والخوف والرعب في أنفس البشرية واستشرافها لحياة ما قبل جائحة كورونا التي حلت على البشرية جمعاء.

أقل ما يمكن القول يا ابنتي أنه كان وقت صعبا علينا فقد كانت جائحة لا تميز بين دول الشمال ولا دول الجنوب، فالفقير والغني سواسية، ولعل هذا من أهم سماتها الإيجابية، فضلا أن قضية إدارة الأزمات وتدبير المخاطر بدت معالمها متخبطة ومتباينة، حيث نجد مثلا من أهم المنظمات الدولية التي تقع تحت لواء الأمم المتحدة، وهي منظمة الصحة العالمية والتي تتوفر على ميزانية ضخمة من التمويلات، بلغت 5.6 مليار دولار أمريكي حسب آخر تحديث في عام 2019 ، فضلا عن مواردها البشرية من علماء وخبراء وأطباء وأطر عالية، لكن كل ذلك لم يجعلها تقوم بدورها، أتعلمين أنها قد ترددت وتأخرت وهذا غير مفهوم في إعلان أن الوباء قد أصبح وباء عالميا بعدما انتشر انتشارا واسع وصعب بذلك احتواؤه، دون الحديث أن أهم تصريحاتها الكارثية وهي أهل التخصص حيث صرحت وفقا للرواية الصينية بأن الوباء لا ينتقل بين البشر، زيادة عن إعلانها في البداية كون الكمامة غير ضرورية لمواجهة الفيروس، وأنه لا ينصح للأصحاء بارتداء الكمامة، ثم عادت المنظمة ذاتها لتؤكد أنه يمكن للدول التي يصعب فيها غسل اليدين والتباعد الجسدي أن تستخدم الأقنعة في التجمعات، ويمكن القول يا بنيتي بصدق أن من أهم المساهمين في عدم احتواء الجائحة عالمية هي طريقة تدبير وإدارة المخاطر الوبائية التي عصفت على البشرية جمعاء تكون منظمة الصحة العالمية بامتياز.

وبذلك اتجهت أنظار الكل وأتحدت حول واقع وآفاق المنظومة الصحية، مؤسساتيا وبشريا، وقياسا لبحوثها المخبرية العلمية التي يمكن أن تجد لنا لقاحا لهذا الفيروس المجهري والقاتل المتسلسل ومجهول المصدر، هذا الضيف الثقيل الذي جعل الكل يشعر أنه ينتظر في طابور عداد الأموات، وما نتج عن ذلك من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية مريبة، وكأننا ننتظر تأشيرة لضمان استمرارية الحياة، وكانت فعلا كذلك، رغم الأعطاب الكارثية التي واكبت الأزمة، فحتى البلدان التي تحسب أنها متقدمة ومتطورة وتتسابق لغزو الفضاء، إلا أنها قد هزمت وسقطت في أول امتحان من لدن الغزو الكورونيالي، وعرت بذلك الصنم الذي كانت تختفي وراءه .

ومازلت أتذكر أن أول ظهور للوباء كان بالصين وبهذا اعتبرت أولى البؤر التي حصدت فيها الأرواح ليس بالآلاف كما ادعت حكومة الصين أنذاك بل كان العدد تجاوز المليون على حسب ماكان يروجه المعارضون، فبلد التنين رغم أنه حينها كان قوة صاعدة تتجه للريادة العالمية، وبعلو شأنها لم تستطع محاصرة الوباء في مدينة صغيرة كان اسمها ووهان، بعدما نبههم طبيب أن هناك فيروسا خطيرا معديا وقاتلا، لكن تنبيهاته قوبلت بالتوبيخ من لدن حكومته واعتبرت نصيحته سببا لمتابعته بتهمة بث أخبار مضللة وترويج لأخبار زائفة، قمة اللامبالاة والتبخيس والنكران حتى بلغت تنبيهاته كل معمورة الأرض، وبدأت تسوق لأزمتها باتهامها لأمريكا بنقل جنودها للفيروس في عنق التنين الصيني.

وحتى أمريكا التي كانت حينها تعتلي عرش النظام الدولي، لم تستطع سياساتها “اللاإستباقية” احتواء الفيروس والذي عصف بآلاف الارواح والمصابين، أما نظامهم الصحي خر ساجدا وبدأ تخصصه في تعداد الضحايا الذي أصبح يحملون في شاحنات في جو مخيف، دون الحديث عن الطريقة الدفن الجماعي في إحدى الولايات، وكأن البلد في حالة حرب عالمية غزت أرض العم سام، زيادة عن حرب الكمامات والبدلات الطبية الوقائية حتى أصبح بعض الأطباء يلبسون بلاستيك النفايات، وأصبحت بذلك كل ولاية تنطوي على إنقاذ نفسها بنفسها في جو تسوده الأنانية الوجودية، وكان من أهم الاسباب الرئيسية في عدم احتواء الوباء هي قرارات الرئيس ترامب أنذاك الذي لم يأخذ تحذيرات مخابرات بلده الاستباقية بعين الاعتبار واستهان بها وكان الثمن غاليا للأسف!!

أما بلد العجائز مهد الديمقراطيات وحقوق والإنسان وشعارات من قبيل التضمان والتعايش والاتحاد، لم يكن ذلك سوى شعارات غوغائية سقطت في اختبارها الأول، والكل انعزل وغلق حدوده لمواجهة الفيروس، وتخلى الحلفاء عن بعضهم البعض وكانت إيطاليا وإسبانيا أكبر من خرج خاسرا من هذه الحرب الوبائية، حتى أصبح الأوروبيون يمتحنون القرصنة فيما بينهم، حيث أن التشيك قد قامت بالاستيلاء على مساعدات طبية من الصين كانت متجهة لإيطاليا، علما أن هذه الاخيرة قامت بقرصنة باخرة قادمة من الصين حاملة مساعدات طبية من الكحول التي كانت ستستفيذ منها تونس، دون الحديث عن اختفاء شحنة تضم 6 ملايين كمامة طبية بأحد مطارات كينيا كان مفترضا أن تصل لألمانيا .

وقاطعتني:أابتاه، كيف لهذا الوباء الغريب أن يفعل كل هذا بالبشرية جمعاء رغم وتيرة التطور والتقدم، ولا تحدثني عن الغرب فقط، حدثني كيف تعامل بلدي مع هذا الوباء؟

وما كان حينها ‘لا أن عدلت جلستي وأجبتها قائلا: مبدئيا لا يمكن إلا أن اقول لك بأن جائحة كوفيد 19 سوت بين الدول الغنية والفقيرة، والمغرب باعتباره بلدا ناميا هو الآخر قد أخذ نصيبه من هاته الجائحة، وما يمكن القول على سياسيته التدبيرية وإدارته لهاته الجائحة إلا أنها قد اتسمت ببعض من مواطن القوة التي تستحق التنويه وبعض مواطن الضعف التي أثارت حينها مجموعة من الأسئلة.
قاطعتني وعلى ملامحها نوع من التهكم قالت: أبي ما بال لسانك قد اعترته لغة غريبة وارتجال ثقيل عندما بدأت الحديث عن المغرب، -وزادت بالقول- أريد أجوبة مباشرة وخالية من اللغة الخشبية على أسئلتي الآتية إلى أي حد نجح المغرب في تدبير أزمة كوفيد 19 منذ بداية أول إصابة بالبلد، وما هو الأساس الدستوري الذي على إثره تم تفعيل حالة الطوارئ، وإلى أي حد تم تبيئة حالة الطوارئ الصحية مع حماية حقوق والحريات الأساسية للمواطنات والمواطنين، وكيف تم التعامل مع الطبقات الاجتماعية الهشة والضعيفة التي تأثرت سلبا بالحجر الصحي، وكيف تم التقييم الايجابي لتفاعل القطاع الخاص مع الأزمة سيما منه المجالين الصحي والتعليمي، وهل فعلا أنه يحكى أن بعض ساكنة المدن قد خرجت للشوارع في ظل الحجر الصحي بمسيرة احتجاجية ضد الوباء، وما مدى صحة رفع أحد الشعارات لبعض الساكنة بالقول “وا كورونا سير فحالك المغرب مشي تاعك” .

وما كادت لينا تنتهي بأسئلتها إلا أن سمعتُ صراخ أمي قائلة: انهض أيها المتكاسل إنها الساعة الرابعة زوالا وأنت ما تزال تغط في نومك؛ لقد كان حلما أيها القارئ فلم أجد لا لينا ولا أمها، وجدت فقط كورونا باقية وتتمدد.

سفيان ناشط

باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *