غريب في زمن “الكورونا”

عن أولئك الذين عاشوا الكورونا قبل مجيئها..ولا زالوا

يفتح عينيه على سقف غرفة يكتريها في سطح بيت قديم، يستجمع قواه الهزيلة وهو يطرد النعاس عن جفنيه الذابلتين، وبجانب سريره مذياع قديم تعلوه آثار الغبار التي تركت أثرها على جنبات الغرفة.. ينبعث منه صوت خافت لأغنية هي الأخرى قديمة .. “جفنه علم الغزل….”. وقع المقطع منه موقعا لطيفا وأخذه في لحظة شرود، لكن سرعان ما استرجع وعيه بتنهيدة عميقة وهو يقف متجها بخطى متثاقلة إلى الحمام، يحمل نفسه حملا، قد ضاق بها ذرعا وضاقت به، لم يعد أحدهما يتحمل الآخر، يقف أمام مرآته التي لم يبق منها إلا النصف القليل..

يتأمل تجاعيد وجهه ولحيته التي غزتها شعرات شيب متفرقة، ليس عجوزا، في الحقيقة هو في الأربعين من عمره، لكن هيأته وروحه جاوزتا عمر القبر..

عاد بنفس الخطى المتثاقلة إلى سريره العفن، ارتدى معطفه بتأفف، على مايبدو أن بينهما علاقة غير جيدة رغم طول الإيام التي جمعتهما ببعض. التقط كتابا بجانب سريره وخرج إلى كرسي في السطح أمام غرفته، هكذا أصبحت الحياة مختصرة عنده، مابين غرفة قديمة وسطح بيت شبه مهجور إلا من صاحبته “الحاجة رحمة”، التي ترق لحاله وتطل عليه بين الفينة والأخرى، فهي أيضا تعيش وحيدة في هذا البيت الذي تركه لها زوجها بعد وفاته مع دكان للكراء تقتات منه..

لم تعد له رغبة في الخروج أو اكتشاف العالم في الخارج ولا معرفة أحوال الحي الذي يسكنه، وما شجعه على ذلك هو العم إبراهيم صاحب المقهى التي تقع في نفس الشارع، والذي دأب على زيارته منذ مدة متخفيا من سلطات الحي التي تتشد في تطبيق حالة الطوارئ، وهو يحمل له مايحتاجه من شاي وخبز..، بعدما أن جمعتهما الصدفة ليصبحا صديقين فيما بعد..

إلا أن صاحبنا لا يعتبر نفسه في حجر صحي فهو قد ألف العزلة منذ أن حل بهذه الغرفة، لم يكن يخرح قبل زمن “الكورونا” إلا ليلا الى مقهى العم إبراهيم وحسب، فهو لا يعرف أحدا في هذه المدينة ولم تعد له رغب في اكتشافها بعد ما عاشه في بلدته قبل أن يتركها ويرحل ..
معالم الغموض تخيم عليه، كأنه خلق غريبا وسيعيش وينتهي كذلك، ولكن مما لا شك فيه أن وراءه سرا غريبا كغربة ذاته، هو ما جعله دائما مطأطئ الرأسِ حزينا شاردا طوال الوقت، لا تخرجه من حالته هاته إلا دقات العم إبراهيم الذي يأتي إلى زيارته في كل فرصة أتيحت له..

ولعل القارئ النبيه يتابع معي هذه الحكاية رغبة في اكتشاف ذلك السر الذي جعل هذا الرجل غريبا ووسط مجتمع غريب، والحقيقة أن هذا السر هو في داخل كل إنسان منا قضى حياته إنسانا بكل ماتحمله الكلمة من معنى؛ إنسان غلبت آدميته على دوابيته، إنسان حركته الهمة للبحث عن حلم أو تحقيق ذات، إنسان أبكته الأيام قهرا أو ظلما أو فرحا أو حزنا حتى عاد لم يعد يفرق بين مشاعره، إنسان خذل ممن ظن أنه لن يخذل..، ووجد السند ممن ظن أنه لا قرابة تجمع بينهما، إنسان انقلبت المفاهيم عنده؛ أصبحت المحبة عنده توجسا والصداقة وهما والقرابة عداوة والغربة ألفة..

تلك الغرابة التي وجد صاحبنا نفسه يفر بها إلى أي مكان يختبئ فيه عن الجميع، لا تهمه جمالية المكان ولا شساعته بقدر ما يهمه أن يكون غريبا لا يعرفه أحد ولا يعرف أحدا، لم تعد تحركه تقلبات العالم مهما عظم خطبها لا “الكورونا” ترهبه ولا النجاة منها يسعده، لأنه قد ذاق من “الكورونا” قبل مجيئها ما تنوء بالعصبة أولي القوة، أمثال هذا الغريب كثيرون في مجتمعاتنا العربية، منهم من أصبحوا يوصفون بالمتشردين والحمقى، مرتادي الشوارع والأماكن الخالية لا يخشون فيها على حياتهم، لأنهم حقيقة فقدوا كل شيء حتى حياتهم، وماتِجولهم بين الطرقات والخرابات إلا لأنهم ينشدون الخلاص من هذه الحياة المتعبة..

وفي صباح أحد الأيام يطرق العم إبراهيم باب غرفة الغريب فلا يتلقى ردا كعادته، وينتبه إلى أن الباب قد ترك مفتوحا، يدفعه ويدخل الى الغرفة التي خلت من صاحبها، وعلى سريره ورقة كتب عليها:
“كن كما تريد الشوارع في حينا ..
كن بابا لا يطرق ..
ومارة لا يفكرون سوى بالوصول إلى أي أرض”.

غريب في زمن “الكورونا”

عزالدين بيشا

أعمل مدرسا لمادة اللغة العربية سلك ثانوي إعدادي، ومهتم بمجال الأدب العربي والفن الموسيقي ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *