ملاك الرحمة

عندما تسقط ملائكة الرحمة في العذاب

الهاتف يرن، ألتقطه بلا مبالاة وأنظر إلى المتصل؛ إنه والدي الغالي، يبدو أنه قد نسي شيئا قبل ذهابه للعمل.

– ألو… باب، هل هناك خطب ما؟
– لقد كبرت يا صغيرتي …وستصبحين ممرضة جميلة … لقد تم قبولك في معهد التمريض يا عزيزتي …
– (بدهشة) ماذا؟ حقا ؟… لقد نجحت سأحقق حلمي عما قريب شكرا لك يا الله … لا أظن أنني سأطلب شيئا بعد الآن … كل شيء مثالي سأدرس بأحد المعاهد المرموقة في البلاد …سأقوم بشيء أحبه …

هرمون السعادة يلعب دوره بشكل متقن كالعادة، تحررت من الواقع وذهبت إلى عالمي الساحر لولا ذلك الشريط السينمائي الذي اعترض طريقي يبدو أنه لفيلم قديم، بل إنها مجموعة من الذكريات المخبأة … إنه أنا أضمد جرح جدتي بعناية فائقة بينما هي تربت على كتفي بحنان … أما المشهد الآخر فهو في قاعة الدرس أرتدي وزرة بيضاء وأجيب المدرسة ذات الملامح الوقورة بعفوية؛ أريد أن أصبح ممرضة …
إنه عامي الثاني في المعهد، ونحن الآن في فترة التدريبات الميدانية في المستشفى. الكل منشغل يريد الحصول على أكبر قدر من الخبرة قبل انتهاء المدة المحددة بينما أنزوي وصديقتي في أحد الأركان … المسكينة تحاول أن تقوم بتهدئتي بينما سيل الدموع الذي كنت أخزنه للأيام الصعبة أبى أن ينتظر وقرر التدفق بغزارة، كانت صديقتي تحاول مسح دمعة انزلقت من عيني بخفة حتى استقرت على خدي …
– لا تقلقي، أ هذا ما يبكيك؟ أنك أخطأت الوريد؟ لقد كانت المريضة سمينة رأيت ذلك، أوردتها لم تكن واضحة على الإطلاق…
– (قلتها باختناق) لم أعد أحتمل … لم أعد أريد الاستمرار ليس هذا ما كنت أتخيله عن الدراسة في المعهد، كيف يريدون أن نصبح ملائكة رحمة ونحن نتعرض لكل هذا القمع والتهميش … الكل يريد أن يدهس على كرامتنا نحن لا نستحق هذا وأنت تعلمين جيدا..
– أنت دائما ما تشاهدين الجزء الفارغ من الكأس … تركزين على من يريدون إحباطنا لكنك لا ترين مؤطري المعهد تعلمين أنهم لا يدخرون جهدا لكي نلقى تكوينا هادفا قادرا على إشباع رغبتنا في إسكات فضولنا الضخم … على العموم لا تهتمي، لم يبقى أمامنا الكثير، سنتخرج قريبا وسيبقى هذا الموقف مجرد ذكرى نضحك عليها، تؤنسنا في تجمعاتنا القادمة.
عندما تتراكم علينا الضغوطات، يريد الجسم أن يتخلص منها بأية طريقة ممكنة … لم أكن أبكي بسبب أني أخطات الوريد … إنها وضعية طالب التمريض، وضعية الممرض في بلادنا هي من تثير الرغبة في البكاء، في الصراخ بأعلى صوت “كفى”.
نحن طلاب التمريض ندرس ثلاث سنوات في نظام شبه عسكري، مكدس بدروس ومحاضرات نظرية وتطبيقية، نتلقى تكوينا مهيكلا ومشبعا يؤهلنا للتعاطي مع معظم الحالات التي سنقابلها فيما بعد في الميدان العملي …
لا أنكر أن منا من خان المهنة والأمانة وتجبر، لكن مازال هناك من قلتم أنهم ملائكة الرحمة. أولئك المنتشرون الآن في مختلف المستشفيات والمراكز الصحية بالبلاد يؤدون واجبهم بكل بسالة، يكفيهم دعاؤك لهم ليشعروا بالرضا والراحة.

نحن لسنا “موالين 20 درهم” كما يقول البعض، نحن جنود الصحة، جنود التمريض، تلك المهنة الشريفة التي دنسها البعض بطمعهم وتصرفاتهم الشائنة، تضرب بعرض الحائط كل المجهودات التي قام كل ممرض محارب، نحن فقط نريد بعض الاحترام كالذي يناله الأستاذ مربي الأجيال والطبيب المحب لمهنته.
نحن لسنا أتباع الأطباء، نحن الممرضون تلقينا بدورنا تعليما عاليا نتعاطى مع المريض حسب إمكاناتنا المهنية ومخزوننا من المعلومات الطبية التي تزداد حجما وتعمقا كلما ازددنا خبرة وتعمقنا في جذور المهنة … نحاول أن نقدم خدمات ذات جودة رغم الإكراهات التي تواجه الأطر الطبية ككل بسبب المنظومة الصحية الغير مستقرة.

كثيرا ما تتزعزع أحلامي وأولوياتي، أختار أحيانا فن التجاهل الذي لا أتقنه بتاتا لحل هذا التوتر، وأحيانا أقرر الانسحاب، لكنني أغير رأيي بعد ثوان قليلة لأنني أحب ما أفعل. أتمنى أن أتخرج من المعهد العالي للمهن التمريضية وتقنيات الصحة بمعتقداتي الراسخة والحقيقية عن مهنة التمريض، لا أريد أن تنهار وتضمحل عندما أغوص أكثر في الواقع المرير، أريد أن أصبح ملاك رحمة ليس لأنني فقط أحمل شهادة معتمدة تسمح لي بممارسة المهنة، بل لأنني أصبحت أجيد فن “التعامل مع المريض”.

كوثر الحماني

طالبة تمريض

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *