أحلام فلوريدا – الجزء الثاني

قراءة نقدية في رائعة من روائع الأديبة زبيدة هرماس

لقراءة الجزء السابق من التدوينة:

أحلام فلوريدا – الجزء الأول


3. المكان بين الثابت والمتحرك في الرواية
يكتسب المكان في الرواية أهمية كبيرة، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان الذي تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول في بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوي كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المناخ الذي تفعل فيه، وتعبر عن وجهة نظرها، ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل، والممثل لمنظور المؤلف، وبهذه الحالة لا يكون المكان كقطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، بل يكون الفضاء الذي تصنعه اللوحة.
إن المكان “ليس عنصراً زائداً في الرواية، فهو يتخذ أشكالاً ويتضمن معانى عديدة، بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله” فالمكان في الرواية -موضوع الدراسة- قائم في خيال المتلقي، وليس في العالم الخارجي، وهو مكان تستثيره اللغة، من خلال قدرتها على الإيحاء، ولذلك كان لابد من التمييز بين المكان في العالم الخارجي والمكان في العالم الروائي، فالرواية أعطت للمكانة صبغة خاصة زادت من جماليتها، فالمكان يمكن أن ينظر إليه وفق ثنائية الثابت والمتحرك، أمريكا الثابتة وولاية فلوريدا المتحركة، ثم تحول حلم هروب ولاية فلوريدا إلى أغنية جديدة ترددها الفرقة وفيها:
” فلوريدا يا حلمي الأحمر
احضنيني مرتين حين أكون الحبة
تحت الأرض
وحين أغدو السنبلة “
وفي المكان الثابت تتطرق تلمح الرواية إلى مجموعة من الظواهر التي تنخر المجتمع الأمريكي، مثله مثل المكان المتحر الذي حرك حلم يستحضر التاريخ المؤلم للعنصرية كما عاشتها ولاية فلوريدا ، ويبوح بها إدوارد الأسود قائلا : ” تشتكون من تصرفات رافاييل العنصرية تجاهكم .. لقد حفرت في ذاكرة أجدادنا قصص حزينة “. فالوضع المكاني في هذه الرواية أصبح محدداً أساسياً للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث والحوافز، أي إنه تحول في النهاية إلى مكوّن روائي جوهري ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور الشيء الذي ساهم في تولد المعنى وتكاثفه، وهو يحضر بمعانيه الثلاث التي ذكرها “غالب هلسا”:
المكان المجازي: وهو الذي نجده في رواية الأحداث وهو محض ساحة لوقوع الأحداث لا يتجاوز دوره التوضيح ولا يعبر عن تفاعل الشخصيات والحوادث.
المكان الهندسي: وهو الذي تصوره الرواية بدقة محايدة، تنقل أبعاده البصرية، فتعيش مسافاته، وتنقل جزئياته، من غير أن تعيش فيه.
المكان بوصفه تجربة تحمل معاناة الشخصيات وأفكارها ورؤيتها للمكان وتثير خيال المتلقي فيستحضره بوصفه مكاناً خاصاً متميزاً.
4. جمالية السّرد في الرواية
إن التجديد الروائي في بحث دائب ومستمر عن أدوات جديدة تسبغ عليه جمالية سردية، وغالبا ما تتجلى هذه الجمالية السردية في قدرة الرواية في التعبير عن علاقة الإنسان بواقعه المتغير باستمرار، وبهذا المعنى فإن التجديد في الرواية هو ذلك الأسلوب الرفيع الذي يضفي على النص جمالية تهز القارئ هزا وتمسك بتلابيب خلده. إن جمالية السرد هي جمالية اللغة وجمالية الوصف وجمالية الشخصيات وجمالية الزمان والمكان، ويضطلع السرد بمهمة أساسية ومركزية في العمل الروائي، فهو الخيط الناظم بين عضوية النص، وبمعنى آخر فالسرد يؤدي “بوصفه وسيلة تشكيل المادة الحكائية، وظيفة تمثيلية شديدة الأهمية في الرواية، فهو يركب المادة التخيلية، وينظم العلاقات بينها وبين المرجعيات الثقافية والوقائعية”.
إن قارئ رواية «أحلام فلوريدا» سيكتشف لامحالة مدى حضور ثيمة “الحلم” في متن هذا العمل، كيف لا؟ والساردة تفصح عن ذلك منذ البداية؛ تبدأ الرواية بحدث، حلم لا يصدق يخبر به مساعد رئيس أمريكا “سيدي الرئيس. سيدي الرئيس. فلوريدا تسبح الآن في المحيط. شيء لا يصدق ” ويقول عنه رئيس أمريكا: ” يا إلهي؟ في كل مرة لا أصدق ما يحدث، أظن أننا في حلم.”. وتتلو هذا الحدث، الحلم تعليقات الرئيس ومساعديه: (هذا لا يصدق) و (هذه هي الحقيقة).
ثم تشرع الروائية في لعبتها السردية فتصحبنا في رحلة “أحلام فلوريدا” ما بين بلاغة وصف الحلم، وبين صرامة العلم باستنجاد أمريكا ورئيسها بالخبراء والإعلاميين، حتى يتحول الحلم إلى حقيقة تثبتها علوم الجيولوجيا والفيزياء، ويتابعها الإعلام بقدرته الجبارة على تشكيل وعي الأمريكيين.
تدخلنا الأديبة زبيدة هرماس في متاهات الحلم اللفظية والتصورية في فصول كثيرة من الرواية: في مثل قولها “بخطى سريعة قطع الرئيس الممر الطويل، كانت نقوش على جوانبه تبدو له كمتاهات متعبة، تخيل للحظة أن الجدران تقترب من بعضها، وأن بعض لوحاتها الساحرة ستسقط على بؤسه. كان يجذب ربطة عنقه محاولا التخفيف من خنقها له. وهو يسأل عن الضحايا والرزايا وما إذا كانت فلوريدا تسبح آمنة أم تغرق في موج المحيط ”
فالسرد ها هنا يستمد جماليته من خلال ارتباطه الوثيق بالمكان، إذ يضفي السرد لغة واصفة على المكان، سرد يعج بلغة هادئة كهدوء المكان، إنها لغة عميقة، يدمج فيها السرد نبذا من الأخبار والوقائع والمأثورات الشفوية والعلمية والسياسية والخيالية للمجتمع الأمريكي، فهذا العالم التخيلي خلق “مكونات جديدة طبقا لمقتضيات الحاجة التي يستدعيها ذلك العالم في الوقت نفسه، ومن ثنايا ذلك العالم تنبثق الشخصيات من آفاق ضبابية، كأنها بلا ماض، فتنخرط في حركة صراع حول المفاهيم، والقيم، والتطلعات، والانتماءات، والتملك والهوية، والرغبات، والمتع الذاتية”
وما إن نقتحم عالم الرواية، حتى نجد أنفسنا في مفارقة أخرى، أو “نشعر بلعبة فنية تتمثل في تماهي المتخيل والواقعي”، فالساردة تسرد واقعة فلوريدا باعتبارها واقعا حقيقيا، غير أنها استخدمت لغة رمزية إحالية في بعض الأحيان، سواء على مستوى الشخصيات التي يندمج فيها الخيال بالواقع، فالقارئ إذن، يجد نفسه في حيرة واقعية الشخصيات أو أنها مستمدة من عالم تخييلي، ثم رمزية هذه الشخصيات التي تحيل على دلالات مختلفة تخدم النص الروائي، كما تحضر في النص أحداث تتماهى بين الواقعي والمتخيل. يخالط التفسير العلمي لهذه الظاهرة لعنة التاريخ: ” أولئك الذين يتعاملون مع الطبيعة ومع مقررات مؤتمر المناخ رفضا وقبولا، هاهم يحملون السماعات والميكروفونات المتطورة ليتحدثوا عن نيزك عظيم لا يكترث لسيلان مقالاتهم وأعمدة صحفهم وبنات أفكار تعليقاتهم، أو ربما هزة أرضية تكتو نية جلدت جيولوجيا المنطقة جلدا كما فعل بالعبيد السود في فلوريدا طيلة قرون خلت، أو لعلها تجربة نووية مغمضة العينين فعلت بأهلها ما تفعله النيران الصديقة حين تدق أبوابها وتخربها “.
كما تحاول إقناعنا بأن هذا الحلم مسدد ومتحقق الوقوع بصرامة العلم، حيث يتجند علماء أمريكا في الجيولوجيا وعلماء الفضاء ورجال الإعلام لمتابعة حدث رحيل ولاية فلوريدا ومغادرتها أمريكا نحو وجهة مجهولة.
وكأنما هذا الحلم يدين التاريخ القديم لأمريكا باستعباد الأفارقة، وترحيلهم قسرا من جزيرة غوري وباب اللاعودة، فيزور رئيس أمريكا السنغال ويدخل من باب اللاعودة: ” قصد الرئيس الأمريكي بوابة اللاعودة وكأنها بوابة الحياة بعد الموت، البوابة التي من خلالها حاول استعادة شعبيته “.
ويستقبله رئيس السنغال ليذكره وأهل فلوريدا بالتاريخ المتجدد: ” لدينا في بلدنا من بقي من أهل فلوريدا الأعزاء، وهم قدموا من بعيد، في رحلة تعد من أغرب الرحلات الجماعية التي عرفها التاريخ “.
وتستحضر الأديبة مع تاريخ العبودية بعض رموز التحرير مثل أبراهام لنكولن: “استدعى بيدرو في سؤاله أبراهام لنكولن، وأخبره برحلة الأمريكيين الجديدة من بوابة العبيد القديمة، ونجاتهم من خلالها من عذاب فلوريدا”
5. جمالية اللغة
تحدثنا عن الرواية من حيث موضوعها ولا يفوتنا الإشارة إلى أسلوبها وطريقة بنائها فهي تقوم بمحاولة تغطية العالم فتلجأ إلى استدعاء مشاهد ومواقف متفرقة، وفي ذلك يسير السرد بشكل مكوكي ليشمل مختلف الأماكن في فلوريدا وخارجها، وتفلح الفصول الأخيرة في تحديد الخيط الناظم والذي ينسجم مع العنوان المتفائل المؤطر لهذا المتن أحلام فلوريدا هو عنوان متفائل نرى أنه له مقابل متشائم متحقق في الرواية كوابيس فلوريد.
لقد نتج عن التفاعل ما بين الشخصيات والأمكنة ولادة رواية تنبني على سردية جديدة تنهض على جمالية الحضور والغياب، وعلى الحذف والتلميح، والتكثيف، والاستعارة وفق السنن السردي بمختلقة خصائصه البنائية، وجمالية خاصة، تنبع من قلب اللغة التي ترخي بظلالها على خطابها الإبداعي، والبعدي الواصف، لغة تعتمد على الكلمة التي تمشهد، تثب بغتة أمام عيني المشاهد لتفاجئه بتفاصيل جديدة، أحداث غير متوقعة، ومشاهد وأصوات غير منتظرة يكون لها دور في تنامي الأحداث، حلها وتفجيرها. أو يكون لها دور في النأي عن الحدث البؤري والارتماء بين أحضان رواية تلمح أكثر مما تفصح، تلغز أكثر مما تبين، تحذف أكثر مما تستطرد. رواية تهدم الحدود بين اللغات الإنسانية خالقة لغة سردية تنتفي فيها الحدود الجغرافية أو العرقية. سامحة باجتياح معالمها بخصوصيات أخرى لا تقوم بنفيها وتدميرها بل تخلق جوا كرنفاليا، افتراضيا تلتقي فيه أصوات وطبقات شتى شبيهة بما يوجد في العالم الواقعي. وكلها عناصر تنأى عن الشكل التقليدي للرواية القائمة على الاسترسال والانغلاق الذي يباعد بين عملية القراءة والكتابة.

على سبيل الختم
تعد رواية أحلام فلوريدا بحق رواية مميزة، وإضافة نوعية للمكتبة السردية المغربية، وهي استكمال لمسار سردي ملتزم خطته الروائية المغربية زبيدة هرماس في جميع رواياتها السابقة لا من حيث الموضوع، ولا من حيث أيضا اللغة المستعملة في الرواية.

بنيونس عليوي

طالب باحث في اللسانيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *