أيّـامـاً مَعـدودات..

في آخر أنفاس الشهر الفضيل

– ” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. السلام عليكم ورحمة الله..”
اسْتدار الإمام مُوَلِّياً وجهَه للمأمـومِين بعد نهاية صلاة التراويح، قبل أن يشرَع الجميع في الابتهال على نفس النسق الصوتي المشهور:
[ ربّـنا تقبّـل منا الصلاة والصيام واحشُرنا في زمرة خير الأنام
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله! ]
هي الأدعية التي دأبَ المغاربة من شمال البلاد لجنوبها ومن شرقها لغربها على ترديدها دُبُر كل صلاة تراويح في شهر رمضان الفضيل، لكنها اليوم تُردَّد لآخِر مرة هذه السنة بعدما أعلن “النّْفَّار” و”الغَيَّاط” ومعهُما الطلقات السّبْع لمدفع القصبة ومذيع الأخبار ثبوتَ رؤية هلال شوال مؤذِناً بنهاية الزيارة السنوية لضيف الله الكريم، ومُعلِناً انسلاخ أكرم الأشهر عند الله تعالى وأحبها لرسوله وللمؤمنين.
رمضانُ الأبرك، ذلك المعشوق الذي ينتظره المسلمون على رأس كل سنة، ذلك المحبوب الذي يَضُوع عطر الإيمان فيه والتوبة والهداية طيّباً في كل مكان، تلك الأيام المعدودات التي تفوح نسائمها رحمة ومغفرة وترويضاً للنفس على الطاعة؛ شهر تمتلئ فيه المساجد والشوارع المحيطة بها والمؤدية إليها عن آخرها بالمصلين، منهم الخاشع والمُرَكِّز والساهي؛ المهم أنهم يشتركون في القصد ألَا وهو طلب الغفران من الواحد الأحد البَرّ الصمد، شهرٌ تزداد فيه أعمال الخير والإحسان لتبلغ أرقاما قياسية مقارنة بباقي فصول السنة، فالكل يتسارع للتصدق والبذل والعطاء، وخيرُهم من يُفطر صائماً أكان فقيرا أو مغتربا أو مسافرا تقطعت به السبل وفاجأه آذان المغرب.
أما عن البركة فلا تسأل، ففي شهر رمضان تتوقف موازين العدّ عن العد، وتنهمر البركات آلافاً مؤلفة، فمن المساجد العامرة بروّادها إلى الأسواق المتخَمَة ببضائعها وزبنائها، فموائدِ الرحمن المفروشةِ بين الدروب والأزقة، بل إن البركة تنتقل للثغور فتطيل الابتسامات وتكثِرها فتجد الصائم رغم الأُوام والقيظ والحر باسمَ الوجه مليح المُحَيا، وتتعدى الفرد إلى الجماعة فتجد الجُل (لا الكُل) نشيطا بشوشا جذلان الملامح مبسوطَها. وكمثال طريف على بركة الشهر الفضيل، أتذكّر ما جاء على لسان أحد الأصدقاء “إن أردت أن تلمس معنى البركة فألقِ نظرة على ثلاجة أحد العازبين خلال رمضان وفي غيره، وستلحظ الفرق جلياً، رغم أن الشخص نفسه والظروف نفسها”؛ هذا من صنيع البركة.
طوال شهر كامل عِشنا وعاش المسلمون في شتى أصقاع الأرض مع صنوف الخير أشتاتاً، فشّنَفت مسامعَنا مزامير الأئمة وطلبة القرآن الشجية في المحاريب، وصدحت حناجر العلماء في المنابر بالدروس والمواعظ القيمة، وارتفعت على المآذن أصوات المؤذنين بالتكبير نهارا والتهليل والابتهالات ليلا مبددة ظلمة الأصيل، وتسارعت خطى الرجال والنساء شُبّاناً وكهولًا وشيوخا، بل وحتى أطفالا صغاراً نحو بيوت الله ليعمروها، وازدادت تبرعات الناس أشكالا وألوانا، منهم من تبرع بماله صدقات زاكية، ومنهم من تبرع بجهده في أعمال خيرية هنا وهناك، منهم من تبرع بوقته وعلق منه ما يستطيع لأجل الآخرين ومنهم من تبرع بأغلى ما يملك وأغلى ما خزّن الله في جسمه، الدم الذي ملأ منه المغاربة آلاف الأكياس وأوْدعوها في مراكز التحاقن خلال رمضان نجدة لكل محتاج قد يكون اليوم أنا وغدا أنتَ أو أنتِ.
عشنا خلال الشهر الفضيل مع أنواع من أعمال البر من طرف الشباب والشابات والكهول والشيوخ والمنظمات الحكومية والمدنية، كل حسب تخصّصه وقدرته، ومهما اختلفت أشكالها وألوانها وقيمتها المادية، يبقى الأثر قائما بعد رمضان وذلك لأنها تمس القلوب أوّلًا قبل الجيوب.
طيلة شهر كامل تبدّلت أحوال الناس ابتداء من مواعيد أكلهم ونومهم وعملهم وراحتهم، مروراً بالعادات اليومية التي تزينت بصلة الأرحام وبر الوالدين ورفع المظالم وتفريج الكرُبات وردّ الحقوق وترك الذنوب ومساعدة الفقراء ونصرة الضعفاء وأداء الأمانات وطيب الكلام وحسن الأخلاق، شهر واحد كان كفيلا بإيقاظ الضمائر المستترة وطرق الأفئدة الغافلة؛ شهر كامل نبضَ فيه القلب على إيقاع تراتيل القرآن وتنفّسَتِ الرئتان فيه عطرَ التوبة والغفران.
أقبل رمضان ليُذكِّرنا بما نحن قادرون عليه ولكننا نلتمس الأعذار لعدم فعله، أقبل ليؤكد لنا أننا قادرون على أداء صلاة الفجر يوميا في وقتها وفي المساجد ولكننا نغفل عنها؛ أننا قادرون على صيام ثلاثين يوما متتابعة كيفما كان الطقس ولكننا نتكاسل عن صيام النوافل؛ جاء وذكّرنا بأننا قادرون على ختم القرآن في شهر أو أقل من شهر ولكننا ندع المصاحف على الرفوف يغطّيها الغبار وهي تدعونا ولكن ما من مجيب إلا من رحم ربي؛ جاء ليُثير انتباهنا لأحوال المجتمع من حولنا ويُذكرنا بالمسكين والمحتاج والمريض والعليل؛ أقبل رمضان ليوقف روتين حَيَواتنا المضطرب ويعطينا فرصة للتأمل في كيفية عيشنا العبثي. أقبل ضيفُنا بعد طول انتظار وشوق كبير، وها هو الليلةَ يستعجلنا الرحيل كعادته بعد أن أكرم وفادتنا وزاد عوضَ أن نُكرم قِراه. فطوبى لمن شمّر السواعد وآثر التعب على الراحة وصلابة الأرض على وَثارة فراشه ليلاً، ولفْح الشمس وقيْظِها على برودة منزله نهاراً.
بعد شهر كامل من الذكر والتسبيح بكلّ أشكالهما، ما هيَ سوى سويعات قليلة وتُرفع صلاة العيد بكافة مُصلّيات ومساجد البلاد، سويعاتٌ ويجتمع الصائمون من كل حدب وصوب مكبِّرين ومهلِّلين فرحا بفِطْرِهم واستبشارًا بنهاية ركن كامل من أركان الإسلام وبداية الأشهُر المعلومات لركن لآخر أركان ديننا الحنيف.
فيَا من رجع إلى ربه وعاد في رمضان، أوصيكَ ونفسي بالاستمرار على ذلك بعد رمضان حين تُفكُّ أصفاد الشياطين وتنطلق النفس في أهوائها وتنجلي روحانيات الشهر الكريم، فذلك هو الاختبار الحقيقي.
الله أكـبـرُ الله أكـــبر، لا إلـه إلاّ الله والله أكبر،
ولله الحمد على ما هدانا، اللهُــم اجعـلنا من الشّــاكريــن..

حمزة بوهلال

مدون وعضو فريق زوايا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *