“التعليم عن بعد” في زمن كورونا

تقييم لتجربة التعليم عن بعد

متسللا بين الناس كالضرغام المتأهب الذي عزم على الفتك بفريسته، واستفحل مهلكا الحرث والنسل، محكما قبضته على العالم برمته، حيث أذعنت له القوى الكبرى بجبروتها وتوارى الكل عن الأنظار معتكفين بملاجئهم، فجثم على القلوب التوجس واعتصرها الوجل واندثر الصلف والخيلاء الذي طالما تبجح به بنو آدم، وتغطرس هذا الصنديد.

وقد اختلفت الآراء ونشبت المقارعات ولكن اتفقوا على شيء واحد؛ كون هذا الشبح انبجس من رحم الصين، ولكن هناك من اعتبره وليد “حرب بيولوجية“، وهناك من اعتبره ابتلاء سلطه الرب على عباده بعدما نقضوا وعد الاستخلاف، وعتوا في الأرض فسادا فكانت كصفعة لتنتشلهم من حماقاتهم؛ وفي عز هاته الأوضاع المشحونة، سارعت الحكومات إلى ترقيع ما خلفه هذا الشقي، فلعله كان امتحانا مفاجئا لهم لاختبار مدى قوة رباطة جأشهم ونجاعتهم، وهل سيكتب لهم النجاح والانسلاخ من عز الأزمة أم التقهقر والتوقيع على انهيارهم في زمن كورونا؟

ولعل أبرز ما استنجدت به الدول هو “التعليم عن بعد” كطوق نجاة للسنة الدراسية ولملمت شظايا ما كسره استفحال الفيروس، ولم يعد تفاخرا أو تجربة لمقارعة المنافسين في مجال التعليم وإنما شذرة حلم من وعد خجول لإنعاش السنة الدراسية؛ فبعدما هجر الطلاب مقاعد الدراسة تم الاعتماد على التعليم الرقمي سنده العالم الافتراضي حيث يوجد المتعلم في مكان مختلف عن المصدر الذي يكون فيه المدرس ويباشر تعلمه من مكان آخر غير حرم المؤسسة، فهذا النوع من التعليم لا يقف عند عتبة المكان والزمان مما جعل منه المفتاح العمومي الذي تهيب إليه شرائح المجتمع -على مضض- في زمن كورونا، ولكن الآراء وردود الفعل تمايزت بين من أقر على أنه حكر على ذوي “الدماء الزرقاء” الذين ولدوا وبأفواههم ملاعق من ذهب، عازين ذلك الى الهوة السحيقة والطبقية؛ وهنا مربط الفرس.

هناك من لا يجد ما يسد به رمقه وإن استطاع توفير ما يمكنه من متابعة دروسه -من باب المجازفة- فصبيب الأنترنيت débit الذي يسابق السلاحف له بالمرصاد ! ناهيك عن المدة القصيرة التي تنفذ بيها، وأغلب الدروس المبرمجة على شكل فديوهات! ضاربة بعرض الحائط آمال التلميذ بعرض الحائط فيضحى أسيرا للإحباط واليأس، ويمسي كزهرة عباد شمس حجبتها الغيوم اللعينة عن معشوقتها الشمس. فما عساك إلا أن تندد لقد اتسع الفتق الرتق عندما تفطن إلى قلة الوعي بين أولياء الأمور وعدم مجاراتهم لأبنائهم نظرا للأمية التي مازالت تخيم على شرائح واسعة منهم وانشغالهم بقوتهم اليومي فكيف تطلب منهم اقتناء هاتف خلوي أو حاسوب! خاصة قاطني البوادي في ظل ضعف التجهيزات والخدمات الأساسية والحيوية وضعف التكوين في هذا المجال، وقلة الدروس المدرجة والساعات المخصصة لها مما يجعل التلميذ وعاء لشحذ المعلومات كبطارية الشحن.

اختصاصي علم الاجتماع عبد الرحيم العنفي أقر بأن التعليم عن بعد “لم يكن ثمرة لتخطيط جيد بل ترقيعا خصوصا مع الخصاص في المواد الرقمية والتجهيزات”، فلا مناص من القول أنه ذو “صبغة نخبوية”، وكما يقال أن من رحم الفرص الذهبية تولد السخافات الأزلية؛ هذا ما أكده بعض النفعيين الذي يروجون للدروس الخصوصية ووجدوا من التلاميذ لقمة مستساغة في ظل تأرجحهم بين المطرقة والسندان، وهؤلاء كسفينة نوح التي تبحر بهم إلى البر.

ولنكون ذوي نظرة فاحصة ولسنا بمعول هدام، لا بد من الإشارة أن التعليم عن بعد كان كفرصة الاستدراك عند البعض وأكثر أريحية للتلميذ فلا يصبح مقيدا بأصفاد الزمان والمكان وإنما بناء على برنامج يلائمه مما يرفع من تحصيله ناهيك عن استراحته بين الفينة والأخرى بحصص للتعليم الذاتي بعيدا عن المواد الدراسية؛ وفي خضم هذا المشهد الحالك، انبثق وميض آخر ليبث الدفء بالنفوس ألا وهو المبادرات الفردية أو الجماعية للأطر التربوية سواء بالبرامج التي تبث على القنوات التلفزية أو مواقع التواصل، هؤلاء أبانوا عن علو كعبهم و قدسية رسالتهم تحت شعار من أجل غد أجمل ! وبعزيمة بلغت الجبال الرواسي حطموا المعيقات وقوة شكيمتهم ، ليتمكن تلاميذهم من استكمال دروسهم، ملوحين بلواء التضامن والكفاح، فقد فطنوا أن التلاحم هو الترياق، وبفراستهم وحنكتهم استمروا في التجذيف فكلنا في قارب واحد !

ومما لا غبار عليه فالتعليم عن بعد ربما كان بداية تقليعة جديدة ومرحلة مفصلية في التعليم في خضم عصر الرقمنة .. فهل يمكننا أخذه بعين الاعتبار في مدى أهليته ليتم الاعتماد عليه مستقبلا، وهل يمكن أن نودع أسوار المؤسسات والسبورة وداعا بائـنا لا رجعة فيه ؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *