“التفكير العلمي” الجزء الأول

لنكتسب عقلية علمية تتصدى للخرافة والأسطورة

يتناول المفكر المصري فؤاد زكريا (1927- 2010) في هذا الكتاب موضوع التفكير العلمي (1987) باعتباره عملية منظمة يمكننا أن نستخدمها في شؤون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حينما نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقتنا بالمحيط الخارجي. ويشترط في هذه العملية أن تكون منظمة ومبنية على مجموعة من المبادئ التي نطبقها دون أن نشعر بها شعورا واعيا كاستحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل أن لكل حادث سبب، وأن لا شيء يحدث من لا شيء…
فالعقلية العلمية التي تمثل، حسب الكتاب، تراثا راسخا واتجاها ثابتا يستحيل العدول عنها في المجتمعات المتقدمة التي استفادت من التراكم العلمي طوال القرون الأربعة الماضية، مازال العلماء عندنا يخوضون معارك ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئها، نحن الذين لا نكف عن الزهو بماضينا العلمي المجيد، لكن فئة عريضة في حاضرنا تقاوم العلم أشد مقاومة مقابل الاعتماد على الخرافة في تفسير الظواهر والتقليل من أهمية العقل وقدراته.

ليس شرطا أن يكون المفكر الذي يمارس التفكير العلمي عالما، فالذي يكتسي أهمية بالغة هو التنظيم واحترام الأسس التي يبنى عليها التفكير العلمي الذي تميزه سمات اكتسبها بعد تطور طويل أسقط فيه العقل البشري مجموعة منها لما اتضح خطؤها، وصمدت أخرى لما أثبتت قدرتها على السمو بالمعرفة الإنسانية وقدرتها على الفهم لتصبح مقياسا نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان:

– التراكمية: العلم معرفة تراكمية تشبه البناء الذي يشيد طابقا فوق طابق. وعموما فالمعرفة العلمية تتغير بشكل تراكمي، أي أنها تضيف إلى القديم إضافات جديدة فتتطور وتتسع. ويسير هذا التراكم في اتجاهين: عمودي وأفقي. ففي الأول يعود العلم إلى بحث ودراسة نفس الظواهر التي بحثها سابقا لكن من منظور جديد. أما الثاني ففيه يتجه العلم إلى التوسع والامتداد في ميادين جديدة.
– التنظيم: يعتبر التنظيم من أهم صفات التفكير العلمي، ذلك أن المفكر لا يترك أفكاره تسيره حرة طليقة، بل يرتبها ويسير بها وفق منهج علمي يعتمد على الملاحظة والتجريب ثم الإستنتاج.
– البحث عن الأسباب: حيث إن النشاط العقلي للإنسان لا يكون علميا إلا إذا استهدف فهم الظواهر وتعليلها والبحث عن أسبابها، وذلك لإرضاء الميل النظري لدى الإنسان أولا، ثم التحكم في الظواهر عن طريق فهمها ثانيا.
– الشمولية واليقين: أي كون اليقين يعتمد على أدلة وبراهين منطقية، دون أن يعني ذلك أنه ثابت ونهائي، فالتغيير والتجاوز سمة العلم. وكون الأدلة مقنعة للعقل البشري لا يعني بالضرورة عدم القدرة على تجاوزها مستقبلا.
والمعرفة العلمية تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم.
– الدقة والتجريد: وذلك باستعمال مفاهيم وألفاظ دقيقة وواضحة.
(خلاصة القول: التفكير العلمي نمط من التفكير المنظم لدراسة قضية ما وفق خطوات محددة بغاية تحليلها الوصول إلى أسبابها.)


وأمام العقلية العلمية تقف عقبات كثيرة تعيق بناء معرفة إنسانية سليمة، فباعتبار العلم ظاهرة متأخرة في تاريخ البشرية، ظل الإنسان يفسر الظواهر بانفعالاته وخيالاته وحدسه وأفكاره المجردة، قبل أن يصطنع منهجا أتاح له الإتصال المباشر بالواقع عن طريق الجمع بين العقل والتجربة.
ومن بين العقبات التي كانت، ومازالت، تشوه صورة المعرفة العلمية خاصة في الوطن العربي:
– الإعتماد على الأسطورة والخرافة لتفسير الظواهر.
– الخضوع للسلطة التي تعتبر مصدرا لا يناقش يجب علينا أن نخضع له بناء على إيماننا بأن رأيه هو الكلمة النهائية، فأرسطو مثلا اعتُبر مصدرا أساسيا للمعرفة طوال العصور الوسطى الأوربية، وظلت أفكاره مقدسة مما جعل عصور النهضة والتقدم رهينة بتجاوز هذه القدسية والسلطة العقلية السائدة.
– القِدم: حيث يعتقد أن الآراء الموروثة عن الأجداد لها قيمة خاصة تفوق الآراء التي يقول بها المعاصرون.
– الإنتشار: حيث تكتسب الآراء الشائعة بين الناس سلطة أكبر.
– الشهرة: يكتسب الرأي الصادر عن شخصية مشهورة سلطة كبيرة في أذهان الناس.
– الرغبة والتمني: الميل لتصديق ما يرغب فيه الإنسان ويتمنى حدوثة، ومحاربة ما يصدم رغباته ويحبط أمانيه.
– إنكار قدرة العقل.
– التعصب: وهو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة والفضيلة، فيمنع بذلك عن صاحبه التفكير الحر والنقد.
الإعلام المضلل الذي يسيطر على عقول الناس وعلى نمط تفكيرهم ويوجه أفكارهم.

يتبع…

“التفكير العلمي” الجزء الأول

يونس أوعلي

كاتب ومدون.