العرب وقضية التغيير الداخلي

المشاركة شرط التنمية والازدهار

أصبحنا نحن العرب بلا شيء يقينَا ويَحْمِينا.. نزعوا عنا كل وسائل العيش والأمان، ومواقع الانتماء البديهي الأولي..
هانت علينا عزتنا وكراماتنا الحاضرة والتاريخية، وتضاءلت إنسانيتنا إلى حدود “الميكرون” أو ما دونه.. وتجردنا ربما حتى من قيم وسلوكيات البشرية الأولى..

أضحينا هكذا عراة أمام مرآة أنفسنا.. نرى أجسادا نحيلة وأرواحا محطمة، واسودادا يلون كامل اللوحة..

نبت الشعر سنتيمترات على ألسنتنا، ونحن نلوك الواجبات والحقوق والضرورات والأولويات.. ومع ذلك… ومع ذلك لم نفهم بعد؟!..
لم نفهم أن الحياة تسير وتمضي ولا تتوقف عند أحد مهما علت مراتبه ودرجاته… لم ندرك أن الحياة لا تعاش إلا مع الوعي والمعرفة، ومن موقع القوة والفعل والحضور الحقيقي.. لم نفهم أنها تجاور وتحاور وأخذ ورد، وعمل وتطور وتساهم واشتراك وتعايش وتبادل مصالح وأدوار ومواقع..
لم نفهم أن الحياة ليست لنا فقط.. بل هي لغيرنا ولنا وللجميع.. ووجود الآخر شرط جوهري لوجودنا وفعاليتنا.. حتى الكرامة ليست فقط حالة ذاتية خاصة بالفرد.. لأن كرامة المرء من كرامة مجتمعه وبلده وأمته… ولا كرامة لإنسان منعدم الحقوق، في أوطان الوجع والبؤس والقهر والإذلال..!!.
لم نفهم أن الأمور أبسط بكثير من مجرد صراعات وتدافعات وتحزبات وأنانيات وذاتيات وغرق في بحور النرجسية والأنانية المطلقة..
فالمجتمعات لا تُبنى والأوطان لا تقوم وتتطور إلا بالانفتاح والتغيير وتهذيب النفس والذات وبناء مواقعها على قيم الطهرانية العملية ومحبة الآخر قبل الذات.. ادرسوا تجارب الكل.. الغرب اليابان أمريكا..

للأسف ما زلنا مرتهنين لصيغ فكرية وسياسية جامدة، نرفض التحرك قيد أنملة للأمام خوفا وخشية من استحقاقات التغيير الذي طالت أيامه ولم يأت بعد..!!..
لكن، من سيقوم بالتغيير؟ وما هي أسسه؟ وهل تعلمونَ ما هي مواصفات الرجال الكبار القادرين على إحداث صدمة التغيير والتأثير القوي في مجريات التاريخ لصالح بلدانهم ومجتمعاتهم؟!..

إنهم فقط الرجال الشجعان، أصحاب العزيمة والقيادة الصلبة والكفاءة النوعية، ممن اكتشفوا مواردَ بلدانهم، وعرفوا أسبابَ قوتها وأدركوا عمقها، وانفتحوا بوعي ومسؤولية على عنفوانها وذاكرتها وطموحاتها وحساباتها وأهدافها ومشاعرها..
هؤلاء فقط هم من سيتمكنون ويستطيعون أن يسهموا بقوة وفاعلية في تغيير حركة التاريخ والجغرافيا لصالح بلدانهم وصالح شعوبهم ومجتمعاتهم التي تتوق للحظة التغيير، خاصة عندما يتحركونَ بحكمة وجرأة وعقلانية ومسؤولية، ليتخذوا قرارات حاسمة ومصيرية، تنعكس أمناً وأماناً وسعادةَ ورخاء وازدهارا على مجتمعاتهم وشعوبهم..!!.

والأمر الأكثر صعوبة على الفهم (وربما الباعث على الحزن والأسى) أننا ما زلنا -نحن العرب والمسلمين- نطرح أنفسنا كبديل رسالي وحضاري كوني..!!.

في تصوري، أنه عندما يطرح العرب والمسلمون أنفسهم كبديل إنساني حضاري مستقبلي للعالم كما يبدو من فكرهم ورسالتهم ووعيهم التبشيري القائم على رؤى ومفاهيم إسلامية إنسانية نبيلة، فإن هذا الطرح خاطئ بحد ذاته، وهو يقتصر على دائرة الأحلام النظرية التي لا يزال العرب يتعاملون فيها مع التحولات والتحديات الجارية من منطلق ردود الأفعال الانفعالية الآنية، من دون وجود تخطيط علمي وعملي رصين ومعياري.. لأننا لا نزال نعيش في ظل واقع سياسي واجتماعي واقتصادي عربي وإسلامي يمثل أضعف وأفقر وأسوأ ما وصل إليه العرب والمسلمون في تاريخهم القديم والحديث. فأشكال التخلف الشامل تلف بلداننا، والمشاكل والأزمات والصدمات والانقسامات الأفقية والعمودية تطحن مجتمعاتنا…الخ.. ورغبات وأماني التغيير الشامل المنشودة باتت في خبر كان حتى تاريخه..
هذا هو الواقع المرير السائد مهما غلّفته وغطّته أشكال الحداثة القشرية ببعض ملامحها ومظاهرها المبهرة الخادعة، بل الأجدى أن نعترف بثقل وجودها الضاغط علينا، والذي يمزقنا بين كابوسه الأسود المهيمن وبين حلم امتلاك المستقبل أو على الأقل المشاركة في صنعه.

من هنا ينبغي علينا كعرب -إذا ما أردنا فعليا التحرك على طريق التخطيط للمستقبل أو استشراف أبعاده المختلفة بهدف المشاركة في صنعه مع الآخرين من موقع الند للند وليس من موقع التبعية والاستلحاق فقط – أن نواجه تحديات ترسيم وبناء طموحات واقعنا الداخلي، ومحاولة تغيير واقعنا المأساوي والحطامي إذا صح التعبير، وإيجاد الأجوبة المناسبة على أسئلة التنمية السياسية والاجتماعية والفكرية، وقضية الحرية والحوار والتعددية السياسية، والاعتراف بالآخر، وتعميم ثقافة الوعي والانفتاح والتعاون المطلوبة في داخل اجتماعنا الديني والسياسي، مما له تأثير واضح ومباشر على صياغة المستقبل الذي نريد، وهو ما سيتيح إمكانية أوسع وأبعد مدى للدخول إلى عالم المستقبل من خلال استشراف أحداثه، وبناء بعض مواقعه.. أي علينا أن نجيب بشكل عملي على أسئلة قضية التغيير الداخلي النوعي في بلداننا.. أين أصبحت؟ ولماذا فشلت؟ وكيف يمكن تجاوز معيقاتها الداخلية.

إن الذي يحرك الشعوب والمجتمعات نحو أفق التغيير الحقيقي لتحقيق الشعارات والأهداف العليا والطموحة في بناء أسس سعادتها وازدهارها، هو بالأساس إعطاؤها حقوقها بلا منيّة ولا مزاودة من أحد.. وإفساح المجال العام أمامها للمشاركة الفاعلة في صنع مصيرها ومستقبلها.. هذه بديهية البديهيات التي نصرّح بها ونعلنها ونصرخ بها دوماً في كل منابرنا، وقد بحّت الأصوات من أجلها..!!.

والناس باتت عارفة بكل الحقائق، صغيرها وكبيرها.. العلم والتقنية واستثمار شبكات التواصل الاجتماعي اخترقت الأسرار الدفينة، وكشفت وعرّت الدول والأنظمة أمام شعوبها (بل أمام ذاتها وشعاراتها المتكلسة التي عجزت عن تحقيقها)، وهي التي كانت تفاخر دوماً ببناء كل وجودها على السرية والعمل بالخفاء، وتبني كل سياساتها وترسم كل استراتيجياتها وراء الكواليس وتحت الأقبية بعيداً عن عيون ومسامع وتطلعات شعوبها.. لكن كل شيء افتُضح وسيفتضح، وباتَ اللعب على المكشوف كما يقال.. ولغة الأرقام والاحصائيات المتعلقة باقتصاد وتنمية كل دولة صار أمرا متاحا، وبالتالي معروفا للجميع، في كل أقاصي المعمورة. ولعل أهم ما بات معروفاً ومعلناً بلا سرية، وبلا خوف، هو أن هذه الدول التحديثية العربية فشلت في بناء مجتمعات متطورة لأنها أسست وجودها استنادا على العنف الثوري الذي سحق المجتمعات ومنع نمو إمكاناتها وإبقائها رهينة حاجاتها الوجودية الأولى..!!.

من هنا ما لم تحل قضية التغيير الداخلي العربي، وعلى رأسها قضية وإشكالية الحكم والسلطة لجهة حسمها نهائيا لجهة المشاركة وإفشاء الحقوق وتفعيل الأدوار وتأمين الحاجات، وترسيخ مبدأ المواطنة وحق النقد والمساءلة، عملياً وليس نظرياً، فإننا لن نتقدم خطوة إلى الأمام، بالعكس ستتزايد الانهيارات أكثر فأكثر..
ولن يكون هذا الحق في المشاركة وتعميق الحس النقدي العملي بناءً وتطويرياً طالما أن ثقافتنا التاريخية والمعاصرة ما زالت تركز على الشخص وتدمج بينه وبين الفكرة-القيمة… أي تعتبر أن الفكرة والشخص شيء واحد.. ولهذا حتى يكون النقد صحيحاً وعقلانياً ومنتجاً وفعالاً ومؤثراً، يجب علينا فصل الفكرة (القيمة) عن الشخص..
إن نزع فكرة “شخصنة الأمور” المتحكمة بأذهاننا ووعينا، هو أول خطوة على طريق النقد البناء الصحيح في مجتمعاتنا العربية التي تتحكم بمفاصلها المختلفة قداسة الأشخاص.

وهذه مقدمة مهمة لنزع القداسة “المفتعلة” عن الأشخاص.. فكلنا بشر في النهاية، نسبيون، شكاكون، نخطئُ ونصيبُ، نخضعُ لنفس المناخات والمعطيات وضغوطات الحياة والوجود.. والقانون هو الفيصل.. والالتزام بقضايا الناس وحقوقها، هو الحكم والميزان..
والإسلام نفسه، نجد أنه ركّز على القيمة لا الشخص، وطالب بضرورة الالتزام بالفكرة-المبدأ بعيداً عن الشخصنة وقدسية الأشخاص، في كل حركة التغيير والوعي الإنساني.. وركز على الالتزام بالنهج العقلي الحكيم ‏والمتوازن في الفكر والعمل، وذلك لضبط نزعات الإنسان وعواطفه وانفعالاته.. وهو هنا يقدّم منهجاً تغييراً علمياً وموضوعياً في دراسة حالات العصبية والانفعال والتشنج التي تضج بها ساحتنا العربية والإسلامية، والتي تطبع شخصية الكثير من المسلمين العاملين للإسلام في هذه الظروف التي يطالب الناس فيها بالتغيير المنتج الفاعل، ما أدى إلى أن يأخذ العمل نفسه هذا الطابع (الطابع الانفعالي). ومن الطبيعي أن تؤثر هذه‏ الظاهرة على مبادرات العمل وحركة التغيير والإنتاج وعلى نوعية الرؤيا للواقع والاشياء والأشخاص، فيفقد العاملون وضوح الرؤية، وتختلط الصورة الحقيقية في العيون، وترتبك الخطوات في الطريق، لأن الانفعال يغرق الشخصية في أجواء ضبابية، غارقة في السحر والإغراء في ‏جانب آخر، لأنه يتعامل مع الإحساس والشعور والعاطفة والنزعات البشرية في انفعالاتها، ولا يتعامل غالباً مع الفكر والعقل في رزانتها، الأمر الذي يجعل –كما يقول العلامة الراحل فضل الله- للسرعة دورها الكبير في ما يصدره من حكم، وفي ما يخلقه من ‏انطباع، وفي ما يتجه إليه من غايات. وبذلك يفقد الحكم حيثياته الهادئة المتزنة، ويغيب‏ التركيز عن الانطباع في غمار الضباب.

العرب وقضية التغيير الداخلي

نبيل علي صالح

أعمل كاتباً صحفياً وأنشر في عدد من المجلات المحكّمة العربية والدولية. مهتم بقضايا النّقد الفكري والتجديد الديني والفلسفة العربية الإسلامية. كما أنني مهندس كهرباء تخرجت عام 1997م.