القصائد الأولى

نوستالجيا الشباب

“أنزلت شمس الغروب نهديها” قصيدة قديمة لي؛ جد متواضعة إلا أنها حصيلة تجربة في الحياة، تذكرني بالبدايات الجميلة والحالمة. قبل يومين من كتابتها التقيت “س”، فتاة كنت أحادثها آنذاك على ’”الفيسبوك”، ووقعت في حبها في ما بعد.
كانت تشبهني في الكثير، الطريقة التي عاشت بها حياتها تشبه إلى حد كبير الكيفية التي ترعرعت بها وحيدا دون عون، كانت أمي وحدها هنا. “س” عاشت هي الأخرى نفس التجربة وعانت الأمرين، ولذلك كان من الهين علينا أن نتفاهم في أشياء كثيرة.
تحادثنا صباح مساء على “الفيسبوك“عن كل شيء تقريبا، عن قصص الطفولة والقسوة والحب والفلسفة والموسيقى… حينها كانت الموسيقى ما زالت تعني لي الكثير قبل أن تتحول لمجرد أصوات تعينني على تحمل الهراء من حولي.
لدرجة أصبحت فيها لا أزيل السماعات وإن لم أكن أسمع موسيقى بالفعل، إلا أن الأمر دوما يشكل عذرا مثاليا لتفادي نداءات أشخاص لا نرغب في رؤيتهم، و ما أكثر من لا نود ملاقاته.
أصدقاء الطفولة مثلا وقد تغيروا واحدا واحدا ليغدوا مجرد غرباء نجيبهم بكلمات مقتضبة، وربما نمازحهم بنوستالجيا عن مغامرة طفولية بليدة ما، يصبح الأمر مجرد واجب ثقيل يجب أن نفعله رغما عنا، علما أننا لم نعد أصدقاء فعلا وكلا الطرفين على دراية تامة بالأمر، إلا أننا نستمر بالتمثيل كما لو كانت هناك فعلا أشياء لا زالت تجمعنا وقد اختارت الحياة لكل طريقه وحكاية تخصه.
كانت الموضة الموسيقية آنذاك هي موسيقى “الميطال” ولكي لا أخرج عن السرب كنت أرتدي قمصان فرق “الروك” والميطال السوداء طمعا في إيقاع الفتيات في حبي بنحافتي ونظراتي المتوجسة، الأمر لم ينجح طبعا إلا في مرات قليلة.
اتصلت “س” بي صدفة طالبة لقائي، سألتها عن مكانها مخفيا فرحتي فأخبرتني أنها أمام السفينة التي تتوسط نهر أبي رقراق، تركت مجموعة من “الهيبيين” كنت أجالسهم آنذاك بحديقة “سيرفانتيس”، حديقة تجمع في جنباتها “هيبيين” محبي موسيقى “الروك” ومناضلين فبرايريين متقاعدين…
دخلت من باب شالة ونزلت طولا من سوق السباط دون أن ألتفت، تحركت بكل ما أوتيت من سرعة، وها هي أمامي تقف كما أخبرتني بكل جمالها كقرصانة، ركنت للتو سفينتها. سمراء، بضحكة خجولة وصادقة، معجبة كبيرة “بسارتر” الذي لم أكن أعرف حينها الكثير عنه، و تفاديا للإحراج من أن أبدو قرويا في موعده الغرامي الأول بشوارع العاصمة الرباط سايرت حديثها بقولي:
– نعم إنه فيلسوف رائع أسس لتجربة عظيمة من نوعها.. لكن دعينا من هذا إنه موعدنا الأول لسنا في ندوة بحقك.
لتجيبني ضاحكة:
– نعم معك حق، الأفضل أن نستغل الدقائق المتبقية لأنه يجب علي أن أعود باكرا لمنزل خالتي.
ما إن نطقت هذا حتى تنفست الصعداء، فأسوأ شيء هو أن أبدو قرويا لا يفقه شيئا في فكر “سارتر”. كنت أعرف أنه وجودي لكن لم أعرف معنى الوجودية ولا سبب حول عينيه أو صوره الكثيرة مع “دي بوفوار”. كانت صديقتي أميمة قد أخبرتني بمقهى “ميديا لينا” أنه فيلسوف من الفلاسفة الذين لم تتجاوزهم الكتابة المعاصرة، وافقتها طبعا فلم أكن إلا مزابيا منسلا وسط تجمعات الرباطيين.
وها هي “س” قد خرجت من الافتراضي للواقع شابة حالمة، وشاب حالم حديث العهد بالحداثة ومفاهيمها. بخطى بطيئة ابتعدنا عن الجموع، لنجلس مقابل النهر.. عناق كبير وعناق آخر يكبره، قاومت الخجل وقبلتها. بادلتني قبلات أكبر؛ تجيد التقبيل، هكذا أخبرت نفسي حينها.
ابتعدنا عن عيون المارة وآذان الحيطان وأكملنا موسم اللمس وما جاوره، بحائط يتوسط “لوداية” ومقبرة الشهداء.
شهد كل الموتى من قبورهم، وكل أرواح قراصنة سلا والرباط أن شاعرا مبتدئا وقع في حب فتاة “بانك” تكبره سنا، عقد القران بين روحين، ولعل هذا سبب جعلنا بعد انتهاء العلاقة -لأن لكل شيء بداية ونهاية- أصدقاء مقربين بشدة، نلتقي كمحاربين أنهكتهم الحروب وجعلتهم الحياة أقسى وأكثر واقعية من طوباوية مراهقين في ذروة الجموح.
انتهى اللقاء؛ الساعة تشير إلى الحادية والنصف ليلا؛ أخبرتني أنها ستستقل “طاكسي” لترجع لمنزل خالتها الكائن بباب مريسة بسلا. ولكي أبدو رومانسيا اقترحت أن أوصلها بنفسي.
طاكسي حب مجاني (تبا لي ..)، راقتها الفكرة طبعا تمشينا متعانقين أمام تجمهر من النشالين والسكيرين توسطوا القنطرة، أحدهم سألني
-“خويا شي شعيلة الله يعفو”
لأجيبه بالنفي. وصلت هي لباب مريسة، أما أنا فقد اهتم بي النشالون، في طريق العودة نحو الرباط، من نفس القنطرة.
لعل الأمر انتقام لهم مني وأنا أمر قربهم محاطا بهالة حب، في محاولة شاعر من مدينة ابن أحمد، أن يبدو رومانسيا على الطريقة الباريسية وحداثيا بقطيعة عن السائد، انتقموا مني شر انتقام، حتى نظاراتي الطبية لم تسلم من السرقة.
بعد يومين من الحادثة كتبت النص، أو بالأحرى كتب رغما عني واختار له من العناوين: “أنزلت شمس الغروب نهديها”.

زكرياء قانت

شاعر و كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *