صرخات بلا صدى

فقدنا كل شيء ولم تبقى لنا سوى التربية

كل حديث في تشخيص واقع التعليم داخل وطني، يقود حتما إلى الحديث عن حل لأزمة ظلت من الأوازم التي تعسّر إيجاد مخرجٍ يسوّيها. إذ ما من معيار يمكِّننا من قياس درجة مدى تقدم مجتمع ما من تخلفه غير التعليم، وليس التعليم مجرّد برامج، جدران ومدرّسين، وإنما – التعليم- هو رؤية الدولة التي تبتغي من خلاله تأسيس نموذج تشيّد على إثره أسس التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بل قل إنه، ترجمة لمشروع مجتمعي يمكن الفرد من أن يعرف نفسه وبيئته الطبيعية والإنسانية، متفوقا على نزواته، كي تحمله على احترام الآخرين وتمكنه من المشاركة في الشؤون العامة والمساهمة في إرساء دعائم مجتمع تضامني تقدمي.

لو أسقطنا المبادئ نفسها على وضعية التعليم في المغرب وتساءلنا؛ إلى أي حد استوعبت برامج التعليم والمخططات الإصلاحية الاختلالات المتسربة داخل كنفها الضاربة في جذور التاريخ منذ الاستقلال، والتي لا تخلو من مستجدات تتطور، كلما انتقلت من طور زمني إلى آخر إلا وزادت حدتها؟ لأجيب بداهةً بالنفي؛ ولا أدل على ذلك ما نلمسه على مستوى الواقع، إذ لم تستطع المنظومة التربوية منذ الاستقلال أن تقودنا نحو ثورة فكرية ثقافية، تحسم مع الأساليب السابقة والآنية القائمة على التمايزات الثقافية، التنميط، العادات الراسخة، الأفكار الجاهزة والازدواجية. ..، وليس في الأمر مَدعّاة إلى الاستغراب مادمنا لم ندرك قيمة الخطر الذي أضحى يلاحقنا نتيجة الاستخفاف لصرخات نبهتنا كثيرا لأزمات أصبحنا على مضض نتجرع مرارتها.

لم تستنكف زمرة من النخبة الفكرية في وطننا ممن سبرت أغوار هذا العطب عن وضع الأسس المنهجية مؤسسة لرؤى وتصورات بغية نفث غبار التقهقر والإقلاع نحو نهضة تربوية لمسايرة التقدم التقني والاجتماعي والقيمي، بيد أن ما وفرته وأنجزته من دراسات وأفكار غنية، ظل حبيس رفوف المكتبات، دونما الاعتماد عليه أو على الأقل الرجوع إليه لحظة تحضير مشاريع الإصلاح، وكأن القائمين على إنجاز السياسات العامة لم يدركوا بعد ضحالة المقاربة الاستيرادية المعيارية التي جربت منذ الاستقلال دون جدوى. يسكنني شعور حاد بأن موضع الخروج من هذا المأزق يبقى رهينا بالاستئناس والإصغاء لما خطته أيادي ممن تحملوا مشقة التنظير والتفكير في موضوع التعليم وما بدلوا تبديلا، ولعل ما جعلني أجنح إلى القول بذلك مشروعين ممن اطلعت عليهم وكانا بالغي التأثير في، يرتبط الأول ب“أضواء على مشكل التعليم بالمغرب” للراحل محمد عابد الجابري، بينما يعود الثاني إلى صاحبه حسن أوريد في كتابه”من أجل ثورة ثقافية بالمغرب”.

استعاد صاحب العقل العربي شريط ما جرى داخل المنظومة التربوية قبل فترة الاستقلال واستهل مؤلفه بالعبارة التالية “ثمة في المغرب مشكل مزمن، مشكل يحتل الصدارة ضمن مجموعة المشاكل الأخرى التي لم تعرف بعد طريقها نحو المعالجة الجدية والحل الصحيح.. إنه مشكل التعليم، مشكل يعترف بخطورته وتفاقم أبعاده، منذ الإعلان عن الاستقلال إلى اليوم، المغاربة جميعا… ص3“، حيث لم يتوان طيلة عمله هذا بالانشغال على خلل المنظومة التعليمية، إذ يقدم من خلاله مقاربة ضمن ستة فصول، تدور في مجملها عن أسباب العطب المذكور بعد سبعة عشر سنة من الاستقلال، فحسبه، فإن فترة الحماية تشكل إحدى الإرهاصات المساهمة في استفحال هذا المشكل، ويتصل بالنسبة إليه بشكل مباشر في حرص الاستعمار ومحاولته لطمس الهوية الدينية والثقافية للمغرب، لهدف تأسيس منظومة تعليمية تخدم مصالحه. الأمر الذي نجح فيه بامتياز، لتكون حصيلة ذلك ظهور تيارين داخل المنظومة التعليمية المغربية (تيار تقليدي، تيار عصري)، لتستمر هذه الثنائية لما بعد الاستقلال معمقة من حدة الأزمة، خاصة عندما سقطت في جدالات وتناقضات فيما بينها، ماجعل الشخصية المغربية يغلب عليها طابع الازدواجية، وما حقيقة كل ذلك كما يرى سوى الطابع السياسي الذي اتخذه مشكل التعليم ببلادنا، وفي نفس السياق لا يتردد الراحل في تناول العناصر الأربع الشهيرة حينئذ وهي “التعميم، التوحيد، التعريب، مغربة الأطر“، مسهبا وموضحا الأبعاد السياسية والثقافية والاقتصادية التي يكمن أن تحدثها. ليختم برؤية مستقبلية لسياسات التعليم متفقدا لأحوالها ومستشرفا لأطوارها بتوقعات مخيفة ومتشائمة وكأنه كان على علم لما سيقع.

ولئن كان القول المأثور”الشيء بالشيء يذكر” ، و “لكل مقال مقال ولكل زمان رجال” مناسبة لتذكر حدث عند حدوث آخر شبيه به، فإنني لا أجد سوى الدعوة التي أطلقها قبل سنتين الروائي والكاتب حسن أوريد في كتابه الموسوم “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب”، حيث يبدو التقابل والانسجام بينه وبين الراحل الفيلسوف الجابري واضحا لمن اطلع على المشروعين منذ الوهلة الأولى، على الرغم من أنهما لا ينتميان إلى الجيل نفسه. ففي خمسة أبواب وتسعة وعشرين فصلا، يتفرغ صاحب “رَواءُ مكّة” لوضعية التعليم ببلادنا مشخصا، محللا وواضعا حلولا بشكل دقيق في قالب مستلهما من أبرز ما تركته العلوم الإنسانية من نظريات في التاريخ، علم النفس، علم الاجتماع والعلوم الإدارية، فحتمية الخروج من الوضع الراهن حسبه تبقى رهينة بالرجوع إلى التاريخ للإجابة على سؤالي “من نحن؟ وما الذي نريده؟” لذلك وتأسيسا على هذه الأسئلة يراد من التصور الذي بناه “أن نكون أمة متحدة في أهدافها، منسجمة في مكونتها وإن اختلفت تعبيراتها. نريد أن نكون دولة قوية بمؤسساتها لا مكان فيها للنزوات والأهواء. نريد مجتمعا يستهدي بالقيم ويجعل مدار التميز الإبداع والعطاء ويأتمُّ بالجد، لا مكان لمجد الحظوة، ولا ينزع لإغراء المادة أو النزوات والعبث… ص45″، ولن يجد لهذا الابتغاء سوى الرهان على المنظومة التربوية والتعليمية كي تكون جسراً لهذا الغرض المنشود. لهذه الأهداف ينتقل ويجول بنا الروائي المغربي في مؤلفه المحبوك والفصيح لتأسيس مشروع متناسق مليء بالأفكار والتجارب السابقة واضعا رؤى وأفاق، لم يستثن باطنها أحد الدولة والمجتمع على السواء، ولن يتغافل عن المشاكل التي أضحت تلاحق البيداغوجية، المدرسين، الطلبة والتلاميذ، والمراد من كل ذلك إحداث إصلاح جذري يعبد الطريق نحو ثورة ثقافية تكون تحصيل حاصل لتوطيد قيم العدل، الحرية والمساواة.

عديدة هي الأسباب والعوامل التي فسر من خلالها المفكران الأنف ذكرهما ضعف المنظومة التربوية، إذ تتسم نظرتهما بواقعية كبيرة ورؤية عميقة لا ينكرها إلا مكابر، سيما إذا تنبهنا مايجري حولنا، إذ لم يكن يتصور بدّ أن تصبح غاية التعليم مرتبطة بارتفاع نسب النجاح ولو على وسائل ذميمة كالغش الذي أضحى في ذهنية الطالب والتلميذ هاجسا ينهش ماتبقى من صدق الاجتهاد وعذوبة الإبداع، كما صار تكوين المدرسين أشبه بدورات التنمية الذاتية، وكأننا بصدد الإجابة على سؤال كيف تصبح معلما(ة) في سبعة أشهر، وليس الإشراف على ممن يفترض فيهم أن يشكلوا أهم حلقة لبناء المجتمع وتربية الأجيال، تربية ينبغي أن يكون فيها المربي قدوة للمربى، قدوة في الأخلاق والمعرفة والسلوك.

وعلى الجملة، لا مندوحة للتخلص من التجارب السابقة والآنية سوى الاهتمام باجتهادات هؤلاء التي أوشكت على أن تصبح في عداد النسيان. ولعمري فإن بناء مشاريع الإصلاح لفي أمس الحاجة إلى الاعتماد والاستناد على صناعة ما كتب منذ الاستقلال ليتيح لنا فرصة تذليل الصعاب في شكل إصلاح معياري قانوني، مندمج وممنهج – تحت شرط الإرادة السياسية -يضع حدا للنزيف (الخلل التعليمي) الذي آن الآوان كي نوقفه. ولمن له أدنى شك في ذلك، فليعد للتاريخ وينظر كيف أحيا الفيلسوف الألماني فيخته همم “البروس” بعدما هزمها نابليون سنة 1812 بصرخته؛” فقدنا كل شيء ولم يبقى لنا إلا التربية” لتنهض بروسيا من جديد منتصرة على فرنسا سنة 1870 بفضل جيل حديث أدرك بشجاعة واستوعب عن حماس صيحة العظيم فيخته.

صرخات بلا صدى

سفيان جرضان

طالب باحث تخصص القانون الدستوري وعلم السياسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *