طوق نجاة

 “نجاة” هو اسمها، يتيمة الأب، أكبر إخوانها وأخواتها سنا وأكثرهم ذكاء، ترعرَعت على حب الله وكلامه ونيل رضى أمها، لم تبلغ التاسعة من عمرها حتى كانت قد وعيت من الأحاديث جملة صالحة، وحفظت إلى ذلك القرآن كله؛ وكثيرا ما تكتفي بطأطأة رأسها لفرط خجلها. 
ولجت كلية الطب بالرباط بعد حصولها على شهادة الثانوية العامة وهنا بدأت رحلتها بين الأقدار، وأولهم في السنة الثانية حين جاءها “نصيبها” كما قالت والدتها “بعل تتمناه كل فتاة”. رضخت تلك الطالبة لنصائح أخوالها وأعمامها فتزوجته شرط أن تكمل ما بدأته، كان وفيا بوعوده ما جعل أحاسيس المحبة تولد في قلبها مثمرة معها طفلة شاءت الأقدار أن تكون ذات احتياجات خاصة. فرحت بقدومها وضمتها من قمة رأسها لأخمص قدميها مستحضرة يقينها ورضاها بمشيئة الله، معلنة عن ليال بيضاء أبطالها ثلاث: نجاة، ابنتها وأوراق مبعثرة. 
ذات مساء خلال سنتها الخامسة بالجامعة و تماما بعد خروجها من آخر امتحاناتها لم تجد زوجها في انتظارها كعادته بعدما يُحضر ” قدر” من حضانتها وقد أخذ النهار ينصرم والشمس تنحدر إلى مغربها وأخذ يتسرب إلى نفسها شعور شاحب صاخب حزين، استغربت الأمر كثيرا فهي ماكانت هكذا يوما، خائفة أشد الخوف مضطربة أشد الاضطراب، إلى أن وقف أمامها خالها بوجه شاحب يكسوه الحزن أيضا مُخبرا إياها بمصرع قدرها الصغيرة وشريك عمرها بحادثة سير. انقطع كلامها، قر جسمها وهي لا تعلم ما أبعد ما بين هذه الأقدار …
هاهي ذي “نجاة” تتأمل ذاتها في مرآة أيامها، لا حيلة مع ذلك سوى وصل إرادتها بهدفها. أشفق الله وشدد جميع أجنحتها المتكسرة بصدفة غريبة، نفسه زوج فنانة مغربية راحلة ومفتش بالمالية، رحلت زوجته تاركة خلفها طفلة بعمر “قدر”، أحيانا عديدة ما تجد النفس الحزينة المتألمة راحتها بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور، وتشاركها بالإحساس، وذلك ما حصل بينهما؛ تزوجها فما وجدت فيها ابنتُه إلا صدراً تسند إليه رأسها ويداً تباركها وعينا تحرسها. 
كانت تعطي كثيرا عندما تعطي حطام ما تملك. وأعظم عطاءاتها أنها أعطت نفسها للكل. 
صدق من قال يمد الموت يده ويصفعك بشدة، فتتوجع ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح. كبرت بلا أب، فقدت زوجها، ابنتها ثم أمها، ولم تيأس أبدا من مشيئة الله، فعوضها كل ذلك . 
أطلقوا عليها ” الدكتورة الحاجة نجاة ” بعد سفرها لمقام تمنته وطالما دعت أن تطأه قدماها. دأبت بعد ذلك على الإعتمار كل سنة، و كانت كل ربيع تُهدي عمرة لأقربائها ولا نسيت خادماتها.
جاءها نبأُ تعيينها مديرة لمستشفى الأطفال ” ابن سينا ” وهي في مراحل متقدمة من مرضها، فأخذت توجه الدعوات لكل قريب وبعيد، حَلُّوا ببيتها مهنئين فرحين لفرحتها بمنصبها الجديد وبتخرج ابنتها ( ابنة زوجها ) من جامعة الأخوين . 
شكرت الحضور وما نسيت أن تشكر ربها، فأسرعت إلى مكة مرة أخرى شاكرة مترجية، هناك قالت لزوجها سرا احتفظت به لنفسها، ألاَ وهو داؤها. نجاة، البحر الشاسعُ الذي عبرته قواربٌ بأحجام وهيئات مختلفة فلا هو اشتكى ولا تمرد. 
عادت لمقام الطب، لا كطبيبة ولا حتى كمديرة، هذه المرة عادت كمريضة. قالوا “حتى وهي مريضة كانت تسأل عن حال مرضاها وتستقبل الكل بنفس الإبتسامة “.
أمَّا هو فكان ينظرها باكيا كل ليلة طيلة أيامِ وليالِ مبيته معها بالمشفى، إن الحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرا وجميلا وخالدا، كيف لا وهو تَمَسك ب”نجاة” تَمسُّك غريقٍ بحبل نجاة، حبل قوي ومتين، لم ينقطع يوما رغم حدة العواصف والمطبات. 
ما كانت يوما مثل الغزال الجريح الذي يبتعد عن سربه ويتوارى في كهفه إلى أن يبرأ أو يموت، لا شيء عزلها، وحده المرض فعل ذلك. 
تلك الجمعة كانت السفينة قد اقتربت من بلوغ الساحل، نهضت نجاة مُكابرة لتصلي فجرها، علها لم تكن تدري أن ذلك آخر لقاء دنيوي لها مع ربها، لقاء لمْ يُختم بالشهادة، بل انتهى بسقوطها في ركعتها الثانية، ماتت نجاة ! ساجدة تحت نظرات زوجها الذي فرح لخاتمتها بقدر ما حزن على فراقها. 
جنازةٌ مرت في أجواء مُهيبة، تمت صلاة الجنازة بمسجد الأندلس بحي الرياض، ودُفِنت بمقبرة الشهداء. 
ومن طرائف جنازتها أن الكُلَّ أكل من إجاص حديقتها، فاكهةُ نجاة المفضلة، تزامن قطفها و رحيلها …
“الحاجة نجاة”، هذا الإسم الذي ترك بقلبي الكثير.
 

مدونة زوايا

زوايا فريق شاب مؤلف من 10 شباب عرب مختلفي التخصصات والاهتمامات و غزيري الأفكار يجمعهم حب التدوين والرغبة في إثراء الويب العربي بمحتوى مفيد فريق زوايا ذو أفكار خلاقة وعزيمة متأهبة يعدكم بمحتوى مدوناتيٍّ أقل ما يقال عنه أنه استثنائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *