عندما يقف الماضي عائقا في طريق إصلاح الذات وتنميتها

كن جميلا ترى الوجود جميلا

نخطئ كثيرا حينما نعتقد بكل سطحية أن العلاقة بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا هي علاقة انفصال تام متصورين أن كل ما مضى فات والمستقبل غيب وليس لنا إلا اللحظة التي نعيشها، ذلك أن هذه الأزمنة الثلاثة في واقع أمرها تربطها علاقة تفاعلية متواصلة لا يعتريها انقطاع، فالماضي يؤثر في الحاضر والمستقبل، كما أن هذين الأخيرين يؤثر كل منهما في الآخر ويتأثر به في نفس الآن؛ فقرارات الحاضر ليست إلا امتدادات لتجارب الماضي، كما أن نجاحات المستقبل وإخفاقاته رهينة بقرارات الحاضر، غير أني في هذه التدوينة سأكتفي بالحديث عن بعض التأثيرات السلبية التي يتركها الماضي في حياتنا الراهنة مع رصد بعض مظاهر ذلك على مستوى سلوكاتنا الفردية محاولا إيجاد أساليب وطرائق عملية للتقليص من وطأتها علينا لنكسب هامشا من الحرية بنسبة أكبر ونستمتع بالقيادة الذاتية بشكل أفضل.


لعل من أعمق ما في الحياة البشرية أن كل فرد منا يحمل في ذهنه صورة عن ذاته وعلاقتها بالحياة عامة، تتشكل بطريقة تلقائية تدريجية عبر التفاعل مع الآخر والاحتكاك به منذ أن كنتَ طفلا صغيرا دخلتَ مرحلة التمييز العمرية وصولا بك إلى المرحلة العمرية التي تعيشها الآن، فكان من الصعب عليك أن تعي بها وقت تشكلها فضلا عن إسهامك الواعي في بنائها، فهي تحاول أن تعرفك بنفسك وتقربك منها حتى لا تبقى تائها في عالم لا تدري فيه شيئا عن ذاتك.

غير أن الخطورة الجسيمة فيها أن سلوكاتنا دائما ما تكون مطابقة لها؛ فتصرفنا بصفتنا أبناء ليس هو تصرفنا بصفتنا آباء أو إخوة، وتصرفنا بصفتنا عقلاء ليس هو تصرفنا بصفتنا سفهاء، وتصرفنا بصفتنا سعداء ليس هو تصرفنا بصفتنا تعساء، وتصرفنا بصفتنا أصدقاء ليس هو تصرفنا بصفتنا أعداء، وتصرفنا بصفتنا ناجحين ليس هو تصرفنا بصفتنا فاشلين، وتصرفنا بصفتنا صالحين ليس هو تصرفنا بصفتنا فاسدين، وتصرفنا بصفتنا ننتمي للأسرة أو المجتمع الفلاني ليس هو تصرفنا بصفتنا ننتمي إلى الأسرة أو المجتمع العِلَّاني.. وهكذا نعيش حياتَنا كلها وِفق هاته الصورة الخفية التي نحملها في أذهاننا عن ذواتنا، والتي هي بدورها ليست إلا نتاج علاقة تفاعل بين الذات والآخر عبر رحلة طويلة تبدأ من أول نقطة في الماضي وتنتهي عند آخر نقطة في الحاضر دون أن نخرج عن إطارها قيد أنملة.

لذلك جدير بكل فرد منا حينما يصل مرحلة الرشد أن يتفحص هذه الصورة ويقوم بنقدها ليعرف مدى تمثيلها إياه، فإن بدا له بعد عملية النقد أنها صورة لا ترضيه ولا تتشرف بتمثيله فمن حقه أن ينسلخ منها ويرسم صورة عن ذاته بالصفة التي يريدها، حتى لا تعيش طول حياتك ضحية صورة نمطية تشكلت عنك بطريقة عشوائية لا تخلو في الغالب من مبالغات، وأحيانا أخرى من تصفية حسابات إن خرجتَ عن قوانين الجماعة، كما تسجل عنك كل الهفوات التي لا تمثل في حياتك إلا حالات استثنائية طارئة، وربما كان لمظهرك الخارجي أو لانتمائك العرقي والديني والاجتماعي حصة الأسد في تحديد نوعيتها قبل أي سلوك تسلكه، وربما تم التركيز على مواقف معينة على حساب مواقف أخرى لحاجة في نفس يعقوب، “فعين الرضا عن كل عيب كليلة…وعين السخط تبدي المساوئا” كما قال الشاعر.

وحيث أنه ليس من الهيِّن أن ترسم هذه الصورة بالصفة المرادة كان لا بد من المجاهدة والمثابرة لإنجاح هذه العملية، ذلك أنه لا يمكن رسمها إلا عن طريق الوعي بتفاعلك مع المجتمع أولا، ثم محاولة إخضاع هذا التفاعل لمعايير الشخصية التي تريد تقمصها، مع حرصك الدائم على أن تكون فاعلا في العمليات التفاعلية لا منفعلا؛ أي أن تكون واعيا بدوافع تفكيرك ومواقفك القولية والفعلية متحكما فيها وموجها لها قدر الإمكان.

ومن عجيب تأثيرات الماضي التي ألاحظها أن الإنسان بالرغم من أنه يعيش في حاضره إلا أنه بوعي منه أو بغير وعي يسافر في أحيان كثيرة إلى ماضيه السحيق عبر ذاكرته المشحونة بذكريات الأحداث الماضية التي تجذبه إليها بقوة ولا تفارق لبَّه مدة حياته، فإن كانت أحداثا سارة فهي تُشعره بالحنين والحسرة والاشتياق، وإن كانت تعيسة فهو يحس بالضجر والحزن وتأنيب الضمير، فالتعلق بالماضي بهذا الشكل اللاعقلاني غالبا ما ينغص على الفرد حاضره ويعكر صفوته ويأبى عليه الاستمتاع بجمالية اللحظة، إذ يصنع في داخله مشاعر وعواطف سلبية سرعان ما تنعكس على حياته اليومية فلا يرى بعدها شيئا جميلا، برغم ما قد يكون عليه واقعه المعاش من جمالية وحسن، فربما تجده غارقا في الجمال بمختلف أشكاله وأنواعه لكنه لا يتذوقه ولا يشعر به، لأنه في تلك الحالة يكون فاقدا لذائقته الجمالية مقتنعا تمام الاقتناع أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، ولو جرب برهة من الزمن أن يطرح عن وجدانه تلك الأفكار والمشاعر السلبية ويزرع بدلها أفكارا ومشاعر إيجابية لانعكست هي الأخرى عما حوله وآتت أكلها، فيرى واقعه أجمل بغض النظر عما يعيشه من صعوبات ومشاكل، ذلك ببساطة أن عالمنا الخارجي غالبا ما يتلون بلون عالمنا الداخلي. ولله در الشاعر إيليا أبو ماضي القائل في هذا الصدد:

والذي نفسه بغير جمالي…لا يرى في الوجود شيئا جميلا
أيــها الشاكي وما بك داء…كن جميلا ترى الوجود جميلا

وحتى لا يكون تحليلنا مثاليا أكثر منه واقعيا لا بد من التنبيه على أن عالمنا الداخلي بدوره يتلون بلون عالمنا الخارجي؛ فإذا كانت التجارب والظروف التي مر منها الفرد قاسية فإن هاته القساوة تنعكس على مشاعره فتسلبها إيجابيتها وروحها الفاعلية، فتطغى على مواقفه وسلوكاته صبغة الجفاف العاطفي، في حين أن الشخص الذي حظي في ماضيه بظروف ميسرة على سائر مستويات حياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية تكون عواطفه في الغالب أكثر إيجابية. وهكذا نلاحظ تفاعلا محتدما بين العالمين الداخلي والخارجي للإنسان، فكل منهما يعرف مدا وجزرا في مدى تأثيره وتأثره بالآخر، وطبعا في النهاية تكون الغلبة للأقوى منهما، وهو الأمر الذي لا يتخذ شكلا أحاديا ثابتا بل يتنوع بتنوع معادن الناس وطباعهم واختلاف رؤاهم الفلسفية للحياة، فقد تكون الغلبة للوجدان بالنسبة لفرد ما على حساب ظروف واقعه الخارجي، وقد يكون العكس بالنسبة لفرد آخر، وقد يزاوج فرد ثالث ما بين كل فينة وأخرى بين مقتضى كلا العالميْن.

ولما كانت الأحداث الماضية معرضة للنسيان بشكل سريع كان الذي يصونها من ذلك هو ارتباطها بالمحيط الاجتماعي الذي وقعت فيه؛ بكل ما في هذا المحيط من أمكنة وأشياء وأشخاص وسائر الملابسات المادية والمحسوسة التي عايشها الإنسان وتقاسم معها هذه الأحداث، إذ من خلالها يظل الماضي عالقا بذاكرة الفرد ولا ينفك عنها إلا بانفكاك الفرد عن هذه الأمور، ولولاها لما قدر للماضي أن يبقى عالقا بالذاكرة هكذا، ولما كان له أي تأثير على حياة الإنسان أصلا، لذلك أول شيء يقوم به من يريد الانسلاخ من ماضيه الأليم  هو الهجرة؛ هجرة البلد، هجرة الأشخاص، هجرة الأفكار، هجرة الأشياء، غير أنه حينما يصادف أن تكون هذه المهجورات عزيزة على الشخص فإن هذا الأخير يواجه صعوبة بليغة في التخلي عنها، وأحيانا لا يكون مقتنعا أصلا بكون الهجرة حلا مناسبا للتخلص من آلامه الماضية، وأحيانا أخرى بالرغم من اقتناعه بنجاعة الحل إلا أنه لا يكون متوفرا على المؤهلات الكافية للهجرة.. مما يترك في النهاية مجالا واسعا لتراكم العقد النفسية المتوغلة في أعماق تلك الصورة اللاواعية المعبرة عن الذات.

عندما يقف الماضي عائقا في طريق إصلاح الذات وتنميتها

مصطفى بن خجو

طالب باحث ف الدراسات الشرعية والسوسيولوجية، شغوف بالقراءة والتدوين، مهتم بالمجال الفكري والاجتماعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *