في معنى الحياة

سلسلة تأملات في الأدب والسينما

كل منا طرح ذات يوم ذلك السؤال الذي أرق الإنسان منذ الأزل: لماذا نحن هنا؟ ما معنى وجودنا؟ هل لحياتنا الخاصة معنى محدد؟ وقد حاول أسلافنا، منذ غابر الأزمان، الإجابة على سؤال المعنى هذا من خلال الأسطورة والخرافة والدين والفلسفة والفن.. ومع صدمة ما بعد الحداثة تعمق ذلك السؤال وتولدت عنه عشرات الأسئلة، خاصة مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي ولدت جرحا غائرا في كيان الإنسان المعاصر. وقد شارك الأدب والسينما بدورهما في هذا النقاش، فصدرت أهم روايات ما يسمى في النقد بأدب الاغتراب الإنساني والتي كان أبرزها رواية “الغريب” لألبير كامو و”عوليس” لجيمس جويس، وفي الحين نفسه ظهرت تحف فيلمية خالدة على امتداد الخارطة السينمائية العالمية.

ومن أبرز المشتغلين بهذا الحقل الفني إمبراطور السينما اليابانية أكيرا كوروساوا، الذي اشتغل على هذه التيمة من خلال مجموعة أفلام يبقى أبرزها: Ikiru 1952، حيث يحكي كوروساوا قصة واتانابي الموظف الذي قضى ثلاثين سنة رئيسا لقسم الشؤون العامة في بلدية ما، ليكتشف ذات يوم أنه لن يستطيع العيش لأكثر من ستة أشهر بسبب سرطان المعدة الذي وصل حدا لا يمكن الشفاء منه. ويكتشف مع مصيبته هاته أنه لا جدوى حياته السابقة وخلوها من المعنى، فقد عاش السنوات الثلاثين الماضية قطعة من سلسلة بيروقراطية تكتفي بالاختباء من العالم وراء مكتب يؤجل كل شيء.

لا يخفى على مشاهد “أن تعيش” تأثر الفيلم برواية “المعطف” لغوغول، فكوروساوا – كما يحكي في سيرته الذاتية “عرق الضفدع” – قارئ نهم لأدب روسيا، وبذلك لا يخطئ المشاهد نقاط تماس بين “أكاكي أكاكيفيتش” وواتانابي”: فكلاهما موظف بائس لا معنى لحياته الخاصة، ولا يبحث كلاهما عن معنى للحياة بشكل عام، بل كلاهما منشغل بهمه الخاص: “واتانابي” بإيجاد معنى شخصي لشهوره الستة المتبقية في إنجاز مشروع ساحة لعب للأطفال، و”أكاكي” الذي يجد معناه الشخصي في امتلاك معطف جديد يغير نظرة الآخرين إليه.

تختلف نهاية الفيلم والرواية، لكن المضمون واحد، فكلا الرجلين وجد معنى لحياته يقضي نحبه من أجله. ذلك ما ذكرني وأنا أعيد مشاهدة الفيلم بكتاب المعالج النفسي فيكتور فرانكل (1905-1997): “الإنسان يبحث عن معنى”، الذي خرجت منه مثل كل مرة أقرأ فيها كتابا في علم النفس بانطباع عكس المفترض: لماذا على هذا الكائن البئيس أن يعاني كل هاته المعاناة؟ ما الذي جنيناه حتى نعيش في بحث لا نهائي عن معنى لحياتنا ربما لن يوجد؟ أ كنا سنكون سعداء لو كنا غير واعين كسائر الحيوانات؟ لم يكن سبب ذلك عدم اقتناعي بما جادل به فيكتور فرانكل، ولا لأنني قرأته في فترة اكتئاب، فتلك الأسئلة سابقة على كل ذلك.

يخصص فيكتور فرانكل القسم الأول من كتابه ليحكي تجربته في سجون النازية أوائل الأربعينات من القرن الماضي. مع وصف نفسي دقيق لأحوال المعتقلين وأنواعهم حسب تعاملهم مع كل لحظة من لحظات الاعتقال القاسية، ليضع في القسم الثاني من الكتاب مبادئ ما يسمى في علم النفس الحديث بمفهوم العلاج بالمعنى (Logotherapy)، حتى يصل إلى ما يسميه بالتسامي بالذات الذي يخصص له القسم الثالث. فبعد ثلاث سنوات في معسكرات الاعتقال، وآلاف الملاحظات التي سجلها في ذاكرته أثناء تلك التجربة المريرة، جادل فرانكل أن الناس مدفوعون دائما بالسعي لإيجاد معنى لحياتهم، وأن هذا الإحساس بالمعنى هو الذي يمكنهم من الخلاص من المعاناة، وأننا إذا فقدنا ذلك البحث المستمر فسنقع في حالة قاتلة من الاستسلام: بحث الإنسان عن المعنى هو الحافز الأساسي لحياتنا.

وفي هذا الكتاب أيضا، كما في فيلم كوروساوا ورواية غوغول، ليس المقصود بالبحث عن معنى الإجابة على سؤال وجود الكون أو الحياة عامة، بل إن ما يهم في نظر فرانكل هو البحث المستمر عن معنى لحياتنا الخاصة: سبب وجودنا الخاص. وبذلك اقترح ثلاثة طرق مختلفة للمعنى:

إيجاد معنى في العمل الإبداعي
وتقترح هذه الطريقة البحث عن شغف شخصي وتنميته ورسم سيناريوهات بعد إنجاز ذلك العمل الإبداعي الذي سيكون نتيجة لذلك الشغف. وهو ما فعله “واتانابي” بعد بحث غير مجد عن المعنى بالانغماس في الملذات الذي لم يشف ذلك الغليل الوجودي المحصور بسيف صارم: ستة أشهر. وبذلك استغرق هذا الموظف المشرف على نهايته وقته كله في إقناع المسؤولين بضرورة بناء ساحة ألعاب لأطفال الحي الفقير، ووقوفه على المشروع حتى اكتماله.

أتذكر الآن عشرات الأفلام والروايات التي وجد أبطالها معنى لحياتهم عبر شغف شخصي ينتج عملا إبداعيا، من فيلم The Dark Knight Rises 2012، إلى رائعة إرنست همنغواي “الشيخ والبحر”، مرورا برواية عبد الرحمن منيف “حين تركنا الجسر” ووصولا إلى فيلم Never Look Away 2018.. لكنني شخصيا أميل إلى تفضيل فيلم كوروساوا الذي أزعم أنه لا يستطيع مشاهد أن يتمالك نفسه أمام المشهد الأخير منه خاصة: حين يجلس “واتانابي” على أرجوحة للأطفال بعد انتهاء الأشغال من ساحة اللعب، ويغني أغنية حزينة تزخر بالحياة التي يغادرها متمسكا بحبل المعنى الذي وجده في مشروع شخصي مفيد للآخرين.

إيجاد معنى في الحب
يجادل فرانكل من خلال هذه الطريقة أن خلاص المرء يمكن أيضا أن يكون من خلال الحب، وفي الحب. ذلك أن الحب يكسب الوجود البشري، بعبارة زكريا إبراهيم، في مقدمة كتابه “مشكلة الحب”، اتجاها، وقصدا وغائية فيخلع عليه عمقا ومعنى وقيمة. وهو ما يذكرني بفيلم “الإنسان يعيش مرة واحدة” للمخرج سيمون صالح الذي لعب دور البطولة فيه كل من النجم عادل إمام ويسرى وزين العشماوي؛ إذ يسائلنا المخرج في خطين سرديين عن الإمكانات التي تحملها الحياة وقدرتنا على اختيار ما يلون حياتنا منها بمعنى خاص: الحب في حالة الدكتورة “أمل”، التي تنتقل للعمل بالسلوم البلدة المتواجدة على تخوم الحدود الليبية، بعد مصرع خطيبها وفقدانها للرغبة في الحياة، لتلتقي هناك بـ”هاني” المدرس الذي عوقب بالانتقال في اليوم نفسه بعد أن عجز عن التغلب على إدمانه على القمار والسكر. وبمرور الأيام تتوطد علاقة البطلين لتصبح علاقة حب صادق يجلب المعنى لحياة كليهما، لأن “الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة”.

أتذكر “إليوشا” في “الإخوة كارامازوف” و”فلورنتينو أريزا” في رائعة “الحب في زمن الكوليرا” و”دانيار في رواية “جميلة”، لكنني مرتبط بشكل وثيق بالحب المحرق الذي صبغ حياة الكهل في رواية يوسف القعيد “القلوب البيضاء”، ليس لأنني أفضل هذه الرواية، ولكنني أرى فيه التجسيد الحقيقي للحب الذي يضفي على حياة المنكسرين معنى خاصا ينقذهم من الوحدة الوجودية القاتلة.

إيجاد معنى في المعاناة
أما الطريقة الثالثة في نظر فرانكل فتنبني على مواجهة وضع ميؤوس منه: مصير لا يمكننا تغييره. وذلك عبر تحويل مأساة شخصية إلى انتصار؛ تحويل مأزق الفرد إلى إنجاز إنساني. إذا لم نعد قادرين على تغيير حالة ما – فكر مثلا في مرض عضال لا يمكن الشفاء منه كالسرطان – نصبح حينها أمام تحدي تغيير أنفسنا. وهو ما يذكرني بالخط السردي الثاني في فيلم “سيمون صالح” آنف الذكر، إذ تنمو الصداقة بين “هاني” وحارس المدرسة الصعيدي “بكري” الذي يختفي هربا من ثأر فرّقه عن عائلته وحرمه من رؤية ابنه على مدى ربع قرن. يجد “بكري” المعنى لحياته في نهاية الفيلم، بنصيحة من “هاني”، في مواجهة مصيره ليصحب الخطيبين إلى القاهرة لتأدية مراسيم الزواج، فيجد المطالب بثأره “هريدي” ويصاب في حادث تبادل لإطلاق النار مع غريمه.

ويمكن أن أسرد، مع القارئ والمشاهد، عشرات الروايات والأفلام التي اختارت لأبطالها هذه الطريقة التراجيدية، لكنني أكتفي منها برواية “المغاربة” لعبد الكريم جويطي التي لامست الألم الإنساني المتجسد في حكاية الأعمى الذي يلخص آلام أجيال من المغاربة.


أعلم أنه لا يمكن لهذه التأملات إلا أن تكون شديدة الذاتية، وأعترف أنني لا أحاول أن أستقصي عناصر الموضوع، خاصة حينما يكون بهذه الشساعة، لكنني أسجل هنا مجموعة تأملات قد تفتح نافذة للقارئ وللمشاهد آفاقا لطرح نقاش هادف.

في معنى الحياة

أحمت السباعي

أعمل مستشارا في التخطيط التربوي، أهتم بالأدب والفكر والسينما... نشرت مجموعة شعرية (2014) وأستعد لنشر رواية.