“قطف الجمر” حكاية أرواحٍ معذّبة

استقراء وتمحيص في رواية الكاتب المغربي السعيد الخيز

شهِد الأدب المغربي خلال العقود المنصرمة قفزة كبيرة، بعدما صدرت أعمال أدبية رفيعة المستوى جذبت القراء، منها من نالت جائزة عربية مرموقة، ومنها من نالت استحسان الجميع. ومن بوادر هذا التطور الملحوظ والذي يجعلنا نعتز بكُتابنا أيّما اعتزاز، هو إبداع ثلة من المبدعين الشباب لأعمال روائية وقصصية تستحق الإشادة والتنويه والرفع من مكانتها قدر المستطاع.

ولعل من الأسماء الشابة التي أبدعت في جنس الرواية هو الكاتب المغربي السعيد الخيز، والدليل على إبداعه وعلوّ كعبه هو نيله لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي عن روايته “ابن الصلصال” خلال السنة الجارية، كما سبق وأن صدرت له روايتان، الأولى نحت لها عنوان “نوستالجيا الحب والدمار”، والثانية وسمها بعنوان “قطف الجمر“.

صدرت رواية قطف الجمر، في طبعتها الأولى، سنة 2017 عن دار كيان للنشر والتوزيع بمصر، وهي رواية ذات بعد اجتماعي، كتبها صاحبها بلغة متينة وأنيقة، وقد تضمنت شخصيات تنحدر من الطبقة المسحوقة التي تهضم حقوقها وتجهض أحلامها، كما أنه تناول فيها عدة طابوهات بجرأة كبيرة قل نظيرها.
إن قارئ هذه الرواية سيدرك تماما أن الرجل يحمل على عاتقه قضايا محيطه ويبلورها في عملٍ أدبي أنيق، وبلغة شاعرية قد لا نكاد نجدها عند كتاب آخرين حظيت رواياتهم بالاهتمام الكافي وكتبت عنها عشرات المراجعات في مختلف الصحف والمنابر الإعلامية، وتم الترويج لها على أنها تحفة أدبية لكن سرعان ما تدخل في طي النسيان.

بذل السعيد الخيز جهدا كبيرا في السرد وابتكار شخصيات يمكن أن نصادفها في حياتنا اليومية بعيدا عن تلك الشخصيات الكاريكاتورية التي تجعل من النص نصا جافا، كما وظف لغة باذخة برشاقة في العبارات انتقاها بدقّة وعرِف كيف يستعملها، وبأسلوب اتسم بالموضوعية، كما أن الرواية تبين وبشكل جلي القدرة الكبيرة التي يتوفر عليها الكاتب في إيصال ما يريد بكل اختصار دون استعماله لتلك الجمل الفضفاضة والمملة.
لست من محبي الروايات التي تتألف من 300 صفحة وما يزيد عنها، مكتوبة بلغة تقريرية جافة ومترهلة لا تحبل إلى ما هو مقصود، بل إنني أعشق الروايات التي تكتب بلغة شاعرية فتستهويني، وهذا ما جعلني أقرأ للسعيد الخيز بالدرجة الأولى، ومثل هذه اللغة ليس من السهل امتلاكها وتوظيفها بليونة.


تحكي الرواية قصة مشوقة لأربعة شبان جمعهم بيت يكترونه، كل شاب أكلته هموم الحياة وعذبته أحلامه المجروحة، وكل منهم يحمل في قلبه جرحا غائرا لا يتوقف عن النزيف، وتطارد كل منهم جروح ذاكرة تستدعي أحداث الماضي دفعة واحدة على حين غرة. إن الغرض من تناول الكاتب لحكايات هؤلاء الشباب، في نظري، هو رصد أحلام الشباب وكشفِ أوجاعهم، وتبيان تطلّعاتهم المهزومة.
الشخصيات المحورية في الرواية هي أربعة: أيور، ياسين، أيمن وأسامة. يشتركون السكن، لكن أيور وياسين تلميذان في الثانوية، في حين أن أيمن وياسين هما طالبان جامعيان، وكأن الكاتب، بذكائه، أراد أن يوضح أن هذا البيت الذي يجمع هذه الأرواح المعذّبة والممزقة هو نموذج مصغر لشباب المجتمع المغربي.

حكاية كل منهم تختلف عن الآخر، لكل واحد عالمه الخاص. نبدأ بـ أيور الذي حضر في الرواية كنموذجٍ حي للشاب المغربي المتخلق والمتشبث بما يميله عليه ضميره الأخلاقي دون الانسياق وراء الأهواء والنزوات التي سرعان ما تتلاشى لذّتها، ليظل محافظا على قيمه وأخلاقه طوال فصول الرواية. هو مثال للشاب المثقف، يحب الأدب، ويهتم بالشعر قراءة وحفظا. وضع له الكاتب تفاصيل مميزة وكأنه يؤكد على وجود شباب مثل أيور لم يقعوا بعد في برك آسنة ولم يلوثوا بعفن وشوائب الحياة. كان أيور نصوحا لأصدقائه، وصاحب العقل الناضج، والشاب الذي يواجه عقابيل الأمور برزانة، ويجابه العراقيل بمرونة، وكان أذناً صاغية لأوجاع وهموم الآخرين.

عاش أسامة قصة حب لم تكتمل فصولها، ليعاني من مخلفات الحب، الذي خلف نفسية مهزوزة، وشخصية غير متزنة. أحب زميلته كريمة التي تقاسمت معه مقاعد الدراسة في الثانوية، لكنها لم تقاسمه نفس الشعور، بعدما تمكن ياسين من استمالة قلبها ووقعا معا في المحظور رغم محاولاته الجادة في عدم الانصياع لنزواته، ليعيش بعدها صراعا داخليا بسبب وسطه القروي المحافظ الذي سيزدري فعلته دون رجعة، لكنه لم يستطع مجابهة البركان المتوهّج بداخله.

جسدت شخصية ياسين مأساة الشباب الذين يبيعون أجسادهم من أجل الحصول على المادة، وارتداء ملابس من علامات تجارية عالمية معروفة، واقتناء أحدث الأجهزة الالكترونية، مستغلا في ذلك وسامته، فاستمر في ذلك الطريق إلى أن لقي حتفه على يد مجموعة من الشواذ الأجانب في إحدى المدن الساحلية.

شخصية أيمن تشبه إلى حد ما شخصية ياسين، فهذا الأخير انخرط في عالم الشواذ، أما أيمن فإنه يبيع جسده للنساء اللواتي تجاوز عمرهن أربعة عقود، ليقوم بعمليات ميكانيكية بغية الحصول على قدر من المال وبعض الهدايا؛ ومع توالي الأيام، وتكرار تلك العمليات، وجد نفسه غارقا في متاهات اللذة العابرة، ليعيش تمزقا وضياعا داخليا، وقد بدأت مغامراته مع راضية زوجة علال صاحب البيت الذي يكتريه رفقة أصدقائه الثلاثة، لينتقل بعدها إلى نساء أخريات يبحثن عن متعة خارج سرير أزواجهن. استمر في هذه الطريقة وأحس بتلاشٍ داخلي يجتاحه، إذ أصبح يرى في نفسه أداة جنسية لا تحمل أية مشاعر، تستنزف في علاقات لا تكتنفها سوى المصلحة، فالنساء يطمعن في متعة جنسية افتقدنهن في بيوتهن، وهو يطمع للحصول على المال وبعض عبارات الشكر والثناء، ولم يعد يحتمل ما يساوره داخليا فالتجأ إلى إدمان المخدرات التي حولته إلى كائن هائم في الضياع.


يمكن القول، إن جاز لي التعبير، أن الكاتب السعيد الخيز صنع شخصية ضبابية كان لها حضور قوي ومكثف طوال أحداث الرواية وهي: الجنس. ما يمكن استشفافه هو أن النواة المُشكِّلة لجميع أحداث وشخصيات الرواية هي الجنس، وهو محركهم الرسمي، وهذه الجرأة التي عالج بها قضايا الهامش هي جرأة مستحسنة، إذ عبّر عنها بلغة ممتعة، وبهندسةٍ سردية متميّزة، وبوصفٍ أنيق جداً، وببوحٍ يلامس ذات القارئ ويجعله يتعاطف مع كلّ الشخصيات، إذ استطاع الكاتب أن يوضح أن لكل شخصية ظروفها التي أدت بها إلى سلك ذلك الطريق بخيره وشره.

وصفوة القول: الرواية ممتعة، متميزة، تستحق لفتت انتباه واعتراف، لأنّها رواية ستنال استحسان أي قارئ نظرا للغة الساحرة التي كتبت بها، والخيوط المتشابكة التي نسجها كاتبها ليجعل القارئ متلهفا لمعرفة مصير كل شخصية على حدة.

قطف الجمر تغازل مدينة تاريخية، مدينة الحكّائين، تارودانت، ويتوغل بنا الكاتب في أزقتها ودروبها الملتوية ومعالمها التاريخية ويصفها بأسلوبٍ أخّاذ. ربما لا تختلف قطف الجمر عن روايته الأولى “نوستالجيا الحب والدمار” من ناحية الجرأة واللغة الأنيقة والمعمار السردي، لكن الاختلاف يوجد، إلى حد ما في الموضوع المعالج ولو أن شخصيات الروايتين كلها من الهامش.

“قطف الجمر” حكاية أرواحٍ معذّبة

سفيان البراق

طالب باحث