كورونا والنظام العالمي

نقمة أم نعمة؟

شكلت نهاية الحرب الباردة مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، اتسمت بإعادة بناء العديد من المفاهيم التي كانت متواجدة منذ قدم البشرية ومنحها الأولوية في الخطابات السياسية لارتباطها المباشر بالظواهر الدولية، ومن بين الكم الهائل من هذه المفاهيم نجد “مصطلح الأزمة” والذي يُعد من المصطلحات الأكثر استخداماً في عصرنا الحالي الذي يمكن وصفه بعصر الأزمات بامتياز، فأزمات اليوم ولعل أبرزها أزمة -أو بالأحرى جائحة (coronavirus)- كوفيد 19، مست كل جوانب الحياة وأضحت متواجدة على الكافة المستويات الفردية أو حتى الجماعية وكذا على جميع الأصعدة السياسية منها والاجتماعية، وأهمها الاقتصادية؛ فمن الصعوبة بمكان حصر الأضرار الاقتصادية العالمية جرّاء انتشار فيروس كورونا، ولكن يمكن التأكيد على أنها ربما تكون خسائر غير مسبوقة، ونطاقها يشمل بقاع المعمورة كافة.
فمع سرعة انتشار فيروس كورونا هذا، باتت المخاوف تتزايد بأن العالم مقبل على كساد اقتصادي. فالفيروس قد انتشر في حوالي 75 دولة حتى الآن، ولم تفلت منها إلا الدول النامية الحارّة، والتي لا يمكن الجزم بخلوها من الفيروس، لضعف الإمكانات من حيث الكشف والتشخيص والمتابعة، علاوة على قلة الاهتمام الإعلامي الدولي بأحوالها.
وبعيداً عن الأضرار التي تكبدتها كل دولة على حدة، نجد أن المؤسسات والوكالات الاقتصادية الدولية قد اتفقت على خسائر مبدئية سيسببها ت راجع معدّلات النمو والطلب العالمي الناجم في الأساس عن تراجع متوقع ومنطقي لمعدل النمو الصيني، بؤرة الانتشار الرئيسة للمرض، لا سيما أن العملاق الصيني يستحوذ بمفرده على 20% من التجارة العالمية في المنتجات الوسيطة.
وقد صرّحت وكالة أونكتاد (عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) بأن صادرات الصين انكمشت بنسبة 2% على أساس سنوي في فبراير/شباط الماضي فقط، وهو ما يكلّف دولاً أخرى وصناعاتها حوالي 50 مليار دولار، بل إن رقم 50 مليار، وطبقاً لمديرة قسم التجارة الدولية في “أونكتاد” باميلا كوك هاميلتون، هو رقم أوليّ وقد يكون “تقديراً متحفظا”.
ووفقا لأونكتاد فإن الدول أو المناطق التي تعاني أعلى خسائر في التصدير بسبب تداعيات الفيروس هي الاتحاد الأوروبي، الذي من المتوقع أن تبلغ خسائره حوالي 15.6 مليار دولار، والولايات المتحدة بخسائر تقدر بـ (5.8 مليارات دولار) واليابان (5.2 مليارات دولار) وكوريا الجنوبية (3.8 مليارات دولار) وتايوان (2.7 مليار دولار) وفيتنام (2.3 مليار دولار).
كما توقعت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي خلال عام 2020 بوتيرة أكبر مما شهده عام 2019. حيث خفّض الصندوق توقعاته للنمو في العام الحالي بحوالي 0.4% على الأقل، هذا وانضم مصرف “بنك أوف أميركا” إلى قائمة مصارف توقعت حدوث “ركود اقتصادي” جراء تفشي فيروس “كورونا” المستجد.
وتشير التوقعات إلى أن الاقتصاد العالمي سيشهد مزيدا من التراجع والصدمات خلال الشهور المقبلة، لكن هناك آمالا بأن ينتعش بعد ذلك تدريجيا.
الفيروس الذي أصاب نحو 240 ألف شخص وقتل أكثر من تسعة آلاف حول العالم أدى إلى تسريح آلاف العمال واضطر آخرون للعمل من المنازل وتراجعت بورصات العالم، ومن بينها بورصة “وول ستريت”، التي سجل مؤشرها قبل أيام (مطلع شهر أبريل الحالي) أسوأ جلسة منذ عام 1987.
اليوم، ومع انتشار وباء «كورونا ـ كوفيد 19»، الذي أجل الحديث والانشغال بملفات سياسية واقتصادية ساخنة، يتوقع البعض إمكانية لعب هذا الفيروس دورا إيجابيا في إعادة النظر وتحريك هذه الملفات لكن بمسار أكثر إنصافا وتوازنا إذا صح القول، بمعنى إدارة الأمور بمشىروعية دولية قانونية حقة، بعيدا عن المكانة ثم الامتيازات الدولية لدول على حساب أخرى.
ومع أنه من المبكر الحديث عن مثل هذه الأمور ، كون الصورة غير واضحة تماماً، إلا أن هناك ثمة أمثلة بسيطة قد تؤيد زعمنا السابق. فمثلاً الحرب الليبية التي فشل كبار الوسطاء في التوصل إلى هدنة بشانها نجحت «كورونا» في إيقافها (وإن كان بصفة مؤقتة) مما أعطى بصيصاً من الأمل للشعب الليبي المنكوب في تهيئة أجواء للحوار بين بنغازي وطرابلس. ثم التدخلات الأمريكية التركية الروسية في سوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول المنكوبة، ثم التفاوض بشأن الأزمة الاكرانية الروسية (البلقان)، بل لم نعد نسمع حتى عن الصراع العربي الصهيوني (الإسرائيلي)… وهي دلائل كافية على أن الشغل الشاغل للمنتظم الدولي الآن والعدو الأكبر هو فيروس كورونا.
والأهم من كل هذا هو ما سيصبح عليه شكل العلاقات الدولية والنظام العالمي بعد الانتهاء من «كورونا» وتداعياتها الموجعة؛ ذلك أن التاريخ يعلمنا أن ما من حدث عالمي كبير إلا ويتبعه تغيير كبير في نسق العلاقات وأنماطها بين مكونات المجتمع الدولي، دولاً ومنظمات، أفرادا وحتى شركات متعددة الجنسيات.
حدث ذلك بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحدث أيضاً بعد حرب السويس وانهيار الاتحاد السوفييتي (الحرب الباردة، بروز نظام عالمي جديد أحادي القطبية بزعامة وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية..) وأحداث الحادي عشر من سبتمبر وغيرها…
وختاما، نقول بأنه حتما سيجد العالم علاجا لفيروس كورونا، هذا دون شك، وتنتهي هذه الأزمة، ويبقى السؤال قائما: أين نحن من هذا؟

كورونا والنظام العالمي

خالد ميموني

باحث في العلوم القانونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *