كيف سنواجه “اللاعقلانية” العربية 3

مقارنة بين عقلانيات الغرب والعرب

لقراءة الجزأين السابقين:

الجزء الأول                الجزء الثاني


فكرة المؤتمرات الفلسفية فكرة تقدمية، نظرا لطابعها السلمي، والكوني خاصة. حيث تعمل على مناقشة التحديات العالمية في جو فلسفي من القائم أن يكون شكلا تغييريا راقيا، يبتعد عن ضجة الخطابات السياسية والمناظرات الجدلية التي غالبا ما يكون تأثيرها إقصائيا انتقائيا.

و قد كان مؤتمر “فارنا” المنعقد ببلغاريا سنة 1983 لقاء غنيا عن التعريف، إذ أنه ضم و لأول مرة فلاسفة من دول العالم الثالث، كأمريكا الشمالية، آسيا و إفريقيا. و يعتبر السكرتير العام للاتحاد العام للجمعيات الفلسفية آنذاك وهو “أندرييه ميرسييه” مؤتمر “فارنا “حدثا في تاريخ الفلسفة العالمية في نهاية هذا القرن-أي القرن العشرين- حيث تواجه التيارات الفكرية بعضها البعض في جو من الصداقة والتفاهم المتبادل، وفي مواجهة توتر سياسي عالمي؛ يقول ميرسييه “ينبغي أن تكون الفلسفة الحقة قادرة على المعارضة والمقاومة” .
لا بد إذن أن نوضح معنى “اللاعقلانية” العربية، وقد استحضرنا من أجل القيام بذلك رأي “التفسير المادي والاقتصادي للتاريخ”، بحيث يقول أن الأفكار والمشاعر والعقائد ليست هي التي تحرك الناس وترسم لهم سلوكهم العملي في واقع الحياة، وإنما تجيء لاحقة لكل وضع اجتماعي أو اقتصادي، فهي ليست قوة موجة، فضلا على أنها لا تثبت على حال واحد، فهي متطورة على الدوام. و إن كان هناك فرق بين التفسير المادي للتاريخ والتفسير الاقتصادي له، فإن الأول يتبنى القوى المادية بشكل مطلق في تفسير التاريخ، بينما يختص الثاني في المظهر الاقتصادي للقوى المادية.
وبناء على هذا، فالفكر يحتل المرتبة الثانية دائما -حسب التفسير المادي للتاريخ- الذي يقول في سياق آخر أن “تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام”؛ وهذا اعتراف مادي محض يضرب عرضا وطولا في الذهنية البشرية، ويجمد كل إمكانيات إعمال العقل ومن ثم جعله موجها ومؤطرا للحياة.

والتفسير المادي للتاريخ يكاد يعبر عن عجز غير محددة أسبابه بوضوح وتجلياته واضحة وآثاره وخيمة وملحوظة، أبرزها تحول المجتمع العربي من منتج إلى مستهلك لكل شيء، ومنها أيضا تبعيته اللامشروطة للغرب. وهذا القول مفاده أن البشرية مستعدة للتضحية بكل ما هو روحي وفكري مقابل الجانب المادي والاقتصادي -بيد أن الإنسان هو في نفس الوقت جسد (مادة) وروح-، وبالتالي فلا يجدر تجريد الذات البشرية من إحدى خصائصها الطبيعية التي قد تكون نمطا مثاليا تنمو و تزدهر فيه العقلانية وبعقلانية، أي عن طريق اعتماد العقل كمعيار في الممارسات والأفكار وهذا في حد ذاته هو السبب الجوهري للتخلف الذي كانت تشهده أوروبا في القرون الوسطى من جهة والعالم العربي الإسلامي حاليا ومنذ عصور مضـت: الصراع الجدلي بين الدين والحرية –وليدة عصر الأنوار-.

والقول أن الحرية التي هي جزء من الصراع، نابعة من الفكر التنويري الذي شهدته فرنسا ومن ثم أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية يوازيه التذكير بقول “حليم بركات” أن السائد في المجتمعات العربية هو “العقلانية النقلية” التي تقابلها “المخيلة التقليدية”، وهي عكس “العقلانية النقدية” التي تلازمها “المخيلة المبدعة”. حيث أن للأولى-أي العقلانية النقلية- ارتباطا وطيدا بالموروث -ويمكن أن نسمي متبنيها ب “الأصوليين”- ورفض أي محاولات التجديد أو التماشي- بعقلانية- مع السياق التاريخي والثقافي للمجتمع. وقد أدى ذلك إلى ظهور “العلمانية” التي كنت قد خصصت لها محاولة فلسفية تحت عنوان: “رسالة إلى امرأة علمانية ” و” قراءة” في نفس الكتاب. والعلمانية “مفهوم مستورد من الغرب للدلالة على كل ما هو لا ديني”، ويرجح الباحثون ظهوره كتيار بالعالم الإسلامي، إلى انهزام العرب عسكريا في عام 1967 أي بسبب “النكسة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *