مونولوغ ثلاثي

أنا، أنت، الأريكة والكثير من الصمت

عقارب الساعة تقف لتستريح عند الساعة السادسة صباحا.
كتمثال مكسور ومنسي مند زمن بعيد، كلوحة علقت على جدار بيت مهجور، كأرض بعيدة قاحلة في عام من جفاف يا عزيزي… أجلس مربعة منسية أيضاعلى تلك الأريكة السوداء، أحاكي تفاصيلها المزركشة بين الحين والآخر بدفئ، وأفكر طويلا في اتخاذها رفيقة لي، ملاذي ومؤنسة وحدتي، فقد أمضت معنا عمرا ليس بالقصير مكثت بين جدران هذا البيت، حتى أصبحت كل تفاصيلها تحكي عن جزء من ماض مرهق، هادئ قليلا ومدمع شيئا ما.

هل ستقبل بصداقتي؟ هل من الممكن أن يكون لها صديقا غيري؟ أم هي أيضا وحيدة منسية في هذا العالم البائس تتألم في صمت؟ هل تبكي من شدة ذلك؟ أم  أنها هشة ضعيفة تتظاهر بالصلابة والقوة؟

أكثر من مائة سؤال يتراود بذهني، أسأل نفسي في صمت فقد تزعجها كلماتي بل قد تكون مشغولة في التفكير اللامتناهي أيضا فأفسد عنها متعتها.. أوووه عن أي متعة أتحدث بحق الجحيم، أي متعة في التفكير؟ هل رأيت أحدا يستمتع بالتفكير يا عزيزي، هااااه؟! أظنني سأستمتع به يوما ما!

كم أكره هذا الصوت السوداوي، إنه صوت تحرك عقرب الساعة اللعين، أحاول نسيان الأمر، أشرد في متابعة مساره لدقائق حتى تقف العقارب الأخرى مجددا لتستريح عند السادسة والنصف، “هل  يزعجها جلوسي المستمر؟ أوووه، فماذا عن النوم عليها ليالي الصيف؟”. أحس بألم طفيف بذهني، سئمت من أسئلتي هذه، حسنا! لا سؤال آخر بعد الآن، لن أسأل مجددا.

أستلقي عليها بلطف، أحاول عناقها رغم كبر حجمها مقارنة بطول يداي، لابأس يا عزيزي، فالمهم أني عانقتها، أحسستها بوجودي معها وبمدى أهميتها في هذا البيت، مممم، حسنا! لن أنكر أن لا أحد يهتم بشأنها هنا غيري، هااااه نسيت فمن يهتم بشأني أنا أساسا! نعم، نعم! أعلم أني لم أنسى لكن أظن أنه من الجيد التظاهر بذلك.

أقف كجسد بلا روح، مثلي مثل الأريكة تماما، أيمكنك تحديد أي فرق بيننا يا عزيزي؟ ألسنا متشابهين؟ أترى أي تناقض بيننا؟ وإن كان، فرغم اختلافنا حتى التناقض سأظل أنا أريكة والأريكة أنا.

لا زالت تستمر بإزعاجي، كأنها لا تكتفي بآلامي يا عزيزي؟ نعم، ليست مثل الأريكة ولن تكون أبدا، لا أتحمل هذا، أتوجه نحوها، أمام الحائط مباشرة، أنزعها بقوة من عليه فأنزع أيضا بطارياتها اليمنى الصغيرة، أرميها عشوائيا بجانب الخزانة.

أعود للاستلقاء على أريكتي، “كأنك تسرعت بذلك؟ كأنك لم تكترثي بشأنها أيضا؟ ماذا لو كانت تتألم الآن؟ وماذا لو كانت تأمل أنك رفيقتها الوحيدة بين كل هذه الأشياء؟ ألست أكثر من يفهم المعنى الحقيقي لخيبة الأمل؟ ألم تلاحظي حجم تعبها؟”، هكذا يصرخ بوجهي ذلك الصوت الداخلي، أسمع صوتها السوداوي بكل الأنحاء، كأنه يزداد بين الحين والآخر، كأن عقربها اللعين يتوجه نحوي، يقترب ويقترب، لا أتحمل كل هذا، كأني جننت، أحس باقترابه أكثر، يتوجه نحو قلبي أظن أنه سيخدشه وسينهي كل هذا الهراء، كل هذه الأفكار التي يجترها عقلي بتلقائية.

أقف كجسد بلا روح مرة أخرى، تماما أمام الأريكة وجها لوجه، أصرخ حتى أختنق، “أخربيني يا أريكتي، أ أنا أيضا مثلهم؟ أ أراك بموضوعية هكذا؟ أجيبيني يا تفاصيل؟ أ أنا هكذا؟، وأنت يا عزيزي أتظن أني وقحة لهذه الدرجة؟”.

أبكي حتى أصرخ من شدة بكائي، صراخ كصراخ أولئك الأطفال، صراخ عند البكاء للمرة الأولى فقد اعتدت على البكاء في صمت، حتى لا أزعج أحدا، لا بل كنت أكذب يا عزيزي، فأنا أبكي بصمت حتى لا يعلم أحد بفشلي، بوحدتي الذاخلية، بحجم الألم الذي يطرح فوق ظهري كل ليلة، بمدى كرهي و مللي من كل هذا، بأن كل ألواني الجملية جفت، أصبحت سوداء كاللاشيء يا عزيزي.. أبكي في صمت وأتظاهر بالقوة حتى لا يعلم أحد بأن الصغيرة التي بداخلي لم تعد بخير، عفوا فقد كذبت مرة أخرى، فهي لم تكن بخير مند البداية أساسا.

أليس الصمت كالحرق حيا يا عزيزي، تتألم وتتألم وتتألم، حتى تتمنى الموت ولا تموت، فيزداد الألم تصاعديا حتى يزداد تمنيك للموت أكثر فأكثر لكن لن تموت حينها يا عزيزي، تظل تتألم و تتألم حتى تعتاد على الألم و تتعايش معه و تظل تنتظر الموت بشغف كل دقيقة، نعم، ستموت بالنهاية فالصعب هو الإنتظار، أن تنتظر و أنت تتألم في صمت.

ألست أيضا يا أريكتي مثلي؟
وأنت يا عزيزي، ألا تظهر عكس ما تخفي؟
ألسنا أقوياء نحن الصامتون؟

مونولوغ ثلاثي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *