يوتوبيا

حينما تصبح الهجرة هاجسا لا مفر منه

الظلام قد حل والموعد قد حان، فتظهر وجوه نال منها اليأس ما نال، ليثقل تعب الانتظار أجسادهم ويظل بادياً على محياهم، فالمهمة لم تتم بعد والفترة العصيبة على وشك البدء.


إنهم جنود يحملون سلاح الأمل لخوض معركة الغد الأفضل، هاربين من سكين الوطن لمواجهة موت شبه محقق في البحر تارة وفي الغابة تارة أخرى.


إنهم شباب ضاقوا ذرعاً من نمط الحياة في بلادهم ولم يعودوا يطيقون العيش كآلة للإستهلاك في وسط لا يؤمن بقدراتهم. تركوا معقلهم لإيجاد معنى لحياتهم وربما لكي يعيشوا بقية حياتهم بحثاً عن ذواتهم، فأصبحوا لا يبالون ببكاء أهلهم ولا بصدمة أقاربهم ولا بجزاء من يخالف الأنظمة والقوانين، ولم يعد نصحهم متاحاً فسخطهم أقوى، يكفي أن تقول لهم إشتروا سترة نجاة وتتمنى لهم الحظ الوافر، وبالأحرى فالناصح يعودهم حالاً.
الكثير ممن لقيتهم هنا يتحدثون عن مفهوم العيش الكريم وأن حوافزهم لخوض هذه المغامرة هو تحقيق هذا المطلب النفيس، وفي إسطنبول تكون بداية رحلتهم، يستقلون قطارا متجها إلى آخر مدينة تركية، تقع بالقرب من الحدود اليونانية، يقضون داخله ساعتين هي الأطول في حياتهم حسب ما جاء على لسان صديقي مختار الذي تكللت محاولته الأولى في العبور للضفة الأخرى بالفشل.
لطالما كفرت بهذه الفكرة رغم حبي للمغامرة وهذا ما جعلني أدلي بدلوي كلما سنحت الفرصة وأدخل في نقاشات أغلبها عقيمة تصب في ” البلاد ماعطاتناش “، ” المغرب مافيه مايدار” وغيرها من الشكاوي التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل تثبت أن هجرة الصغير قبل الكبير ليست إرادة ذاتية بقدر ماهي انصهار في الجماعة؛ فكنت كل مرة أبحث عن إجابات تهدئ اضطرابات أحاسيسي وتزيل كل الظمأ الذي يتملكني، فلا أملك إلَّا التحسر على وطن تمخَّض فأنجب إبناً عاقاً يتبنى حلماً سافلاً.
ولكن في هذه المرة خضت نقاشاً عميقاً حول الموضوع نفسه مع صديقي مختار الذي بالمناسبة يبلغ ثلاثين سنة، هو من أصل جزائري وبالكاد بلاده لا تختلف حالاً عن أحوالنا.
فكان بين الحين والآخر يتحدث عن السعادة ويعرفها بصاحبة الجذور المريرة لكن ثمارها حلوة، ويضيف قائلاً: «أنها ليست ذلك الشعور الذي يغمرنا ثم يزول بسرعة، أو تلك النشوة التي نشعر بها حينما نقبل فتاة للمرة الاولى، بل هي أعمق من ذلك وفائقة في الإحساس. أنا أتحدث عن السعادة التي تعطي غريباً بلاداً ليست بلاده، فتحبه وتحميه وتشفيه وتسانده، أنا لا أنكر ولائي وانتمائي لوطني لكنني لن أتحمل عواقب تدبيره الفاسد، أعتقد أن الهروب من البطالة واليأس يستحق أن يُشق في سبيله طريق الموت لتحقيق حلمنا المشروع في بلوغ الفردوس الأوروبي، أعترف أن محاولتي الأولى باءت بالفشل بل ولا تشجع على إعادة الكرة مرة ثانية، لأنني تعرضت للسرقة والتعنيف من طرف عصابات كردية قرب الجدار الحدودي، لكنني تربيت على الالتزام والكفاح من أجل الوصول إلى مايسعدني في حياتي لذلك سأعيد المحاولة ماحييت».
كثيراً مانسمع أو نقرأ عن أناس لا تهاب الموت بقدر ما تهاب الغرق وسط وطن مفكك، فمخاوفهم تذوب حينما تستمر شرائط ظلم الحياة بلونها الأبيض والأسود طاغية على مشهدهم والرتابة القاتلة تتفرس أيامهم وتتربص بشبابهم فلايرون حياداً في معاشهم، لذلك يبدأ بحثهم عن أشياءهم السامية في مكان آخر، ربما مكان مثالي يحقق وعودهم الداخلية.
إن تضحياتهم بالقليل والكثير، القريب والبعيد دليل على حجم المأساة التي عاشوا، ولا شك أن نسبتهم تزداد مع مرور الوقت.
من الممكن أن يتوج كابوس رحلتهم بالنجاح فيعانقوا أحلامهم الجميلة ويشكروا أفكارهم العنيفة التي قطعت صلة رحمهم مع الأيام العجاف، كما يمكن أن يسبحوا في بحر النسيان فيضلوا طريق العودة، ومن الوارد أيضاً أن يتنازلوا عن أنانيتهم ويتقبلوا عيوب الوطن؛ في الحقيقة حاولت تركيب ذلك في جملة مفيدة لكن هذا غير ممكن.
لم أجد إلّا التمعن في تلك الفكرة المعدية بحذر ثم أستخدم القلم لترجمة ما أشعر به، أعتقد أن الوقت قد حان لنحزن بل نرتدي الأسود على وطن ينخر المرض نخاعه.

محمد العوينة

طالب ، السنة الاولى ادارة أعمال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *