ضيف ثقيل يدعى الاكتئاب

ليس كل مانراه بأعيينا صوابا - قصة واقعية

قبل عام من الآن، كنت قد تعرفت إلى صديق كان قد حكى لي رحلة تعايشه مع شبح الاكتئاب، اكتئاب حاد جعله يكره الحياة بالرغم من أنني كنت دائما ما أخبره أنها جميلة إلى حد لا حد له، صديقي ذاك كان من الأشخاص الانطوائيين الذين لا تغرهم جمالية الدنيا ومن عليها، ولا تغرهم فكرة إنجاز شيء أو تحقيق حلم أو هدف ما، كان من بين الذين لا يحبذون الحديث مع أحد عدا من يفهمهم ولو بالقليل، وكان من قبل يراني في حياته ذلك الأحد، ربما كان من أغرب الناس الذين تعرفت إليهم في مسيرة حياتي مطلقا، إلا أنني تعلمت منه أن ليس بالضرورة كل مانراه بأعيينا صوابا

تعرفت على صديقي ذاك في رحلة الحياة، جمعتنا زحمة جعلته يحكي لي الكثير من الأشياء التي أقسَم لي أنه لم يسبق له أن باح بها لأحدهم وحتى أقرب الناس إليه، بالرغم من أنه كان يخبرني أنه لا يحبذ الحديث إلى أحدهم، حتى أصدقاءه الذين كان مرة في السنة يصاحبهم بالرغم من أنهم لم يكونوا أصدقاءه الحقيقيين، أحاديثنا جعلته يبوح لي بأشياء لم أكن أعرف أنها تتواجد به بتاتا، حبه للموسيقى واتخاذه لهواية الرسم ملجأ يحتضنه في كل مرة عند الحزن، كنت أحب كل ما تبدع أنامله في صنعه، ولطالما مدحته في كثير من الرسومات التي كانت يداه تتفنن في وضع اللمسات عليها، إلا أنه كان دائما ما يؤكد لي أنه فاشل في كل شيء في الحياة، حتى أنني إلى حد اليوم أحتفظ بإحدى رسوماته التي كان قد أهداها لي، وبالرغم من كآبتها إلا أنها كانت آخر ما جمع بيننا..

قرأت لأول مرة عن “الاكتئاب” منذ أن تعرفت على صديقي ذاك، لم يكن شخصا عاديا، لكنه كان كتلة إنسان يحيط به اليأس من كل جوانب الحياة، إنسان لا يعرف معنى التفاؤل أبدا، انسان لو طُلب منه أن يرمي نفسه من أعالي جبل شاهق لما تردد في فعلها والابتسامة على وجهه، لم أكن متخصصة في علم النفس ولم يسبق لي أن تعمقت في البحث عن هذا المرض، لكنني لطالما تابعت حالات لأناس يعانون منه من خلال برامج تلفزيونية، وقرأت عن تجارب لأشخاص كان قد سبق لهم أن وضعوا حدا لحياتهم بسبب شبح الاكتئاب…

حكى لي صديقي ذاك أن الاكتئاب هو أكثر من مجرد شعور بالحزن، فالأشخاص المصابون به يفقدون الشعور والاهتمام بكل شيء، حتى أنهم لا يعرفون معنى المتعة بأنشطتهم اليومية، قرأت أيضا أنه يتلاعب بوزن الإنسان، فمرات يزيده ومرات ينقصه، حتى أنه يفقد شهية الأكل أما النوم فحدث ولا حرج، إذ أنه يصيب صاحبه بالأرق ما يجعله يدخل في اضطرابات شديدة حتى ساعات متأخرة من منتصف الليل، وعادة ما يصاحبه شعور بالإرهاق وقلة في التركيز، وفقدان الطاقة والشعور بعدم تقدير الذات أوالشعور المبالغ فيه بالذنب، والتفكير في إيذاء النفس أو حتى الانتحار.

أخبرني صديقي ذاك أن من عادات المكتئبين العزلة عن النفس وحب الصمت و قلة الكلام، و عادة لا يأتي الإكتئاب هكذا من فراغ، بل يتولد عن أشياء سبق للإنسان أن عاشها في فترة من حياته..
كان السبب الذي جعل صديقي يدخل في مرحلة الاكتئاب وجعله يحس باليأس هو رحيل والدته عنه وهو في عمر صغير، وما عاشه من معاناة جعلت الحياة تسقطه أرضا بعدما قاوم لسنوات..

كان فقدان نبع الحنان أهم سبب جعله يعاني من اكتئاب حاد دام رفيقه لسنوات، ليس هذا فقط بل تعرضه للتنمر جعل حالته تزداد تدهورا في وقت ينتظر فيه أن يتخلص من شبح الاكتئاب..

جمع حديثنا تناقض كبير، لم يسبق لي أن جمعني بأحدهم، أنا كنت ثرثارة إلى حد كبير، في حين كان هو يكتفي بالحديث عن أشياء حزينة لم أكن أحبذها أنا، كنت أحاول أن أخرجه من دوامة ما هو به، لذلك كنت أحكي له عن كوني متيمة بحب الروايات والكتب، أعشق كل تفاصيل الحياة، أحب البساطة، وأحبذ مرات أن أستمع إلى موسيقى “عبد الرحمن محمد” أو”ماهر زين”، ومرات تنقلب موازين الأنغام لتحذو حذو الشاب “خالد” أو “ريدوان”؛ كان يحكي لي عن حياته قبل مغادرة والدته وبعدها، كون والده طلق والدته بعد نكاح دام عقدين كاملين، وكنت أنا أخبره عن كرهي للون الأصفر والهلع الذي يصيبني في الظلام، حتى أنني أكدت له أنني لا يغمض لي جفن إذا لم يكن نور خافت يخترق نافذة غرفتي حتى أنام، مرات كنت أستعمل مصباح هاتفي يفي بالغرض كل ليلة، إلا أن الخسارة الكبرى كانت أنني كل يوم أستفيق على بطارية فارغة، تجعلني أذهب إلى المدرسة دون هاتف وهذا ما لا أحبذه أبدا…

كنت أقارن حجم اضطراباته مع اضطراباتي فأجد أن لا مجال للمقارنة أبدا، كنت فتاة تجاوزت مراحل المراهقة بأكملها ولم تعد تستهويني أتفه الأمور التي عادة ما تراها المراهقات تاجا فوق رؤوس الملوك. أقارن بين ما يحكيه لي وما أقصه عليه أنا، فأجد أن الفرق بيننا هو نفسه ما بين السماوات والأرض، وما بين الواقع والأحلام.

كنت أرى أحاديثنا بعيدة كل البعد عن بعضها؛ كنت أنا تلك الفتاة المرحة الثرثارة كثيرة الحركة، أتحدث إلى هاته الفتاة وتلك، بالرغم من أنني لا أعرفها، يجمعني موقف مع تلميذ داخل المؤسسة التي أدرس بها وفي كل مرة أمر عليه ألقي السلام بالرغم من أنني لا أعرف اسمه، إلا أنني كنت أحب الكلام ثم الكلام .
كنت أحكي له عن كيف أظل مستيقظة أحيانا حتى تمام الساعة الرابعة صباحا لأكتب إحدى تدويناتي لأنني كنت أؤمن أنني من الكتاب الليليين الذين لا يجيدون الكتابة سوى في الليل

صديقي هذا، انطفأت أحاديثنا لا أتذكر بعد كم شهر من الكلام لكن ما أتذكره أنني كنت أحاول أن أكون له صديقة بالرغم من أنني لم أكن أفهم أسرار المكتئبين، إلا أنني كنت أعلم أنه يعيش صراعا مع الحياة وكل مرة يستيقظ ولا يجد سببا بسيطا يجعله يبتسم ..
ربما لم يجد ضالته بي، لكنني مع كل هذا حاولت أن أساعده، كنت أعلم أن فراق نبع الحنان أهم ما في الأمر…

انتهت صداقتي به مع انتهاء عام جميل تعلمت فيه أن هناك أناسا في العالم يعانون أشياء أنا أسمع بها فقط ولم أعشها يوما ما، أدركت كم كنت سخيفة في كل ما كنت أخبره عني، كان يحكي عن الاكتئاب حد الانتحار وكنت أحكي له عن اللون الاصفر أو ما شابه، ومرات أخبره عن كيف مرت حصة مادة الفلسفة التي كنت أغفو فيها عدة مرات قبل أن ينطق الأستاذ بالتقديم، كم كنت سخيفة وأنا أخبره عن كون الظلام يخيفني وكيف أنني كنت آخذ الأقلام التي انتهى حبرها في القمامة عندما ينتهي منها الأستاذ في مرحلة الابتدائي.
اختفت أحاديثنا، اختفيت عنه واختفى هو الآخر. ربما لأنني لم أعرف يوما طبيعة المكتئبين، كيف يعيشون أو كيف يحسون، لكنني أرى أنهم يستحقون الكثير من الاهتمام حتى يخرجوا من دوامة الحزن التي تعصف بهم كل يوم ..

صديقي ذاك شكل محطة من حياتي جعلتني أحب اللون الأصفر بعد أعوام كرهته فيها، بيد أنني إلى اليوم لم أملك الشجاعة على ارتدائه إلا أنني أراه مشروع فستاني الذي أريد أن أخيطه على مقاسي بعد رحيل الجائحة، صديقي هذا لم يجعل لون الأصفر فقط يصبح أجمل في عيناي، بل أصبحت أستحمل النوم في الظلام بعد أعوام قضيتها وأنا أفضل الاستيقاظ حتى الصباح، على النوم فيه. صديقي هذا دفعني لأقرأ للمرة الأولى عن الاكتئاب والانطواء والعزلة وكل ما يصيب معظم الناس في فترات من حياتهم..

لو كتب لنا أن نلتقي مجددا، سأشكره كثيرا وأخبره أنني أحببت الأصفر بسببه، وسأخبره أيضا أن ليس بالضرورة أن يكون كل ما نراه هو الصواب، وأن الاكتئاب قد يشكل فترة عصيبة في حياتنا إلا أنه يظل مرحلة حزن قد تتبعه لحظات بهجة وسرور …

ضيف ثقيل يدعى الاكتئاب

Exit mobile version