لماذا لا يرفع الفلسطيني الراية البيضاء؟

عن القضية الفلسطينية

تتوالى السنوات وقضية فلسطين لا تراوح مكانها، ورغم أن لكل طرف حساباته داخل البلد وكلٌّ مؤمن أشد الإيمان بقرب محو الطرف الآخر من الوجود، فالأمر لازال يطول والتحولات الكبرى في العالم تُنْذِر بأن القضية تحتاج إلى حل مُعَيَّن.

فلماذا الطرف الفلسطيني لا يرفع الراية البيضاء منذ سنوات طويلة ؟

سنة 2008 كنت حينها تقريبا في الحادية عشرة من العمر وأنا أشاهد حربا على التلفاز، وأبي جالس بجانبي يتحسر على ما يشاهده، وأنا صغير لم أكن أفهم، فأسأله ما الذي يحصل؟ لا أتذكر جيدا ما الإجابة بالضبط، نسيت الكلمات.. لكن الذي أتذكره جيدا ولا أنساه هو مَشاهد الدمار والقتل، وأن من يُقتلون هم مسلمون مثلنا – في مكان بعيد – من طرف أعداء لهم ولنا، وكانت فعلا حينها أجواء كئيبة جدا في المنزل.

وأعتقد أن الجو نفسه كان يسود كل بيوت المسلمين بالعالم!
وظل هذا الأمر يحدث بشكل دوري تقريبا بنفس المَشاهد والأسئلة التي أطرحها على نفسي ومحيطي بشدة : لماذا يَقتلونهم؟ ماذا يريدون منهم؟ لماذا لا يوجد أحد يوقفهم عن قتل إخوتنا المسلمين؟ لما لا يعطون للمعتدين – القاتلين ما يريدون ويتركونهم وشأنهم؟ وغير ذلك من الأسئلة البريئة !

ولما بدأتُ أكبر وأعي الحياة قليلا، عدت بسرعة لأتحسّس وأعرف ما كنت أشاهد أيامها ولا أفهمه، وكل مرة كنت أحاول أن أفهم أكثر، لأستوعب أن ما وقع سنة 2008م هي الحرب الأولى على غزة، وأن سنة 2012م عَرفَت الحرب الثانية على غزة، وسنة 2014م شهدت الحرب الثالثة على غزة، وأن هذه السلسلة من الحروب ليست إلا مشهدا صغيرا من حياة المُعاناة التي يعيشها أُناس اسمهم الفلسطينيون ” منذ عقود من الزمن.

واكتشَفْت أيضا أن على هذه الكرة الأرضية مسألة معقدة جدا تسمى “ القضية الفلسطينية “، طرفاها شعب مكافح – مقاوم واحتلال يحاول سلبهم أرضهم، لكن الذي لا أفهمه إلى اليوم أن أغلب الدول المستعمِرة في التاريخ كانت تُخْضِع الدول المستعمَرة بالكامل؛ بسلب أرضها كاملة وتركيع رموزها كاملة.

غير أن هذه القضية يظهر أنها لا تُشبه أبدا غيرها، فلا هي أرض احتُلت بالكامل ولا هي رموز تم تركيعها بالكامل، بل بالعكس تماما كلما ازداد القتل كلما زادت المقاومة وبأشكال ابداعية غير مسبوقة.

وعن الأفكار التي يحملها أفراد المجتمع حول فلسطين، كنت أسمع ما معناه “الفلسطينيون هم الرجال”، وكنا نسمع معلومة بغض النظر عن صحتها ومدى دقتها، فإنها كانت شديدة التأثير علينا هي أن فلسطين بها نسبة %0 من الأُمية، لذلك هي تُقاوِم بشدة طيلة هذه السنوات، أو بمعنى آخر ما يجعل الفلسطينيون يصمدون بصلابة هو تسلحهم بالعِلم قبل أي تسلح آخر.

والأكثر من ذلك أينما نَظَرْتَ في أرجاء العالم تجد شخصا عربيا متفوقا إن سألت عنه غالبا ما تجده فلسطيني، وأكثر ما يتميز به الفلسطينيون اليوم -على غرار فترات التاريخ الماضية- هو العِلم والنضال، بل إن الدائرة تتسع كل يوم لتشمل كل الميادين المهمة والمؤثرة، إنتشار لا يحاول الوقوف أمامه إلا شلال الإغتيالات المتتالية لرموز فلسطين بميادين عدة.

ولعل الحديث عن العِلم يجرنا للحديث أولا عن العالم الفلسطيني فادي البطش الذي تم اغتياله سنة 2018م في ماليزيا، وأيضا فإن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد تميز بفكره في السابق حول قضايا الأمة، واليوم مفكرون يلمعون في الساحة مثل عزمي بشارة وعزام التميمي وعدنان ابراهيم.. وغيرهم من المفكرين الآخرين.

وبالنضال – وإن كان كل الفلسطينيون يناضلون في ميدانهم – فإنه بالإضافة لكل الشهداء الذين سقطوا منذ أكثر من 70 عاما من الإحتلال نجد وجوها تُقاوِم على الأرض مثل المرابطة صُحبة أخواتها المرابطات الأخريات هنادي الحلواني التي تستمر في دربها رغم كل التضييقات، وأيضا نجد رمز المسؤولية والنضال والشجاعة رغم صغر سِنّها عهد التميمي.

وبخصوص الرموز الدينية فنجد الشيخ رائد صلاح في الداخل الفلسطيني يقاوم هو الآخر رغم كل المضايقات، والأب مانول مْسَلّم عن الجانب المسيحي في إصرار على المقاومة، ونجد الشيخ محمود الحسنات ينتشر في مجاله الدعوي كداعية فلسطيني مرموق.

وفي الشِعر كذلك نجد بعد الراحل محمود درويش الخلف الذي استطاع حمل الرسالة، مثل شاعر القدس ” تميم البرغوثي “ صاحب الفكر القوي قبل الشِعر، ما ينعكس في شِعره ويجعله متميزا.

وعلى مستوى الغِناء نجد ثلة من المغنين الفلسطينيين الذي يحاولون تمثيل بلدهم ورفع صوته ورايته للعالم، من بينهم “ محمد عساف ” الذي غير ما مرة يُذَكِّر بفلسطين والقضية الفلسطينية.
وكل هذا ليس فقط إلا قفز هنا وهناك بشكل انتقائي على بعض الشخصيات الفلسطينية المؤثِّرة، الغاية منه التأكيد على أن فلسطين موجودة في كل مكان، فالقضية الفلسطينية يبدو أنها لم ولن تموت، ولن تُرفع الراية البيضاء ما دام أصحاب الحق مُضطهَدون في موطنهم الأصلي، ولا يسعون لشيء سوى تحرير بلدهم من الإحتلال.

ولعل ما يزيد القضية صلابة يوما بعد يوم ويجعل الراية البيضاء من المستحيل أن يرفعها الفلسطينيون هي ثلاثية اللاجئ والشهيد والأسير، والتي تدور حول نقطة مهمة هي الأرض، والذي يربط بين نقطة الأرض والأضلع الثلاثة المذكورة هي المقاومة التي إن غابت انحل العقد وضاعت القضية.

لذا، فالقضية الفلسطينية نعم مُعَقَّدة وربما حلها لايزال بعيدا لسنوات أخرى، لكن تبني المقاومة بجميع أشكالها هي الحل الوحيد الموجود، خاصة إن كان الفلسطينيون اليوم لا يُمَثِّلون أنفسهم فقط وإنما يمثلون أمة.

فيا له من شَعب اخترع للعالَم شيء اسمه “ انتفاضة ” بكلمة لا تُترجَم وإنما تُنْطَق كما هي في اللغات الأخرى، ويا له من شَعب يقف أمامه الجندي المُسلح خائفا، ويا له شَعب صَدَّر لكل العالَم “ الكوفية ” التي كل من يضعها في عنقه أو رأسه يحس بالفخر والشموخ والإستقلال، وكأنهم يقولون للعالم: عيشوا الإستقلال الذي نعيشه ونحن في ظل الإحتلال..

لماذا لا يرفع الفلسطيني الراية البيضاء؟

Exit mobile version