تدوينة متصدرة

أحزاب الحركة الوطنية: قراءة تركيبية في النشأة، رهان الدمقرطة وتحديات الواقع _2_

من خلال المعطيات الواردة في الجزء الأول (لقراءته أنقُر هنا)، سنحاول أن نقِف، في الجزء الثاني من هذه المقالة، مع “أحزاب الحركة الوطنية ورهان الدمقرطة”، نظراً للأهمّية التي تلعبها الأحزاب السياسية في عملية بناء الدولة الحديثة ودمقرطة السلطة. ومن ثمّة، حصَرنا الموضوع زمنياً في الفترة الفاصلة بين ظهور التنظيمات الحزبية المغربية ومرحلة التناوب 1998، كما اتخذنا نموذجـيْ حزب الاستقلال وسَليله الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم بعد ذلك الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، نظراً لمركزية هذين الحزبيْن في الحياة السياسية لتاريخ المغرب الحديث. 

أولا: نشأة أحزاب الحركة الوطنية

إنّ التعاطي مع السياق الذي برزت فيه أحزاب الحركة الوطنية بالمغرب، يستدعي الوقوف عند طبيعته السياسية، والتي كانت الحماية الفرنسية تُشكل أساسَه؛ على إثر ذلك، ساهمت مجموعة من الإرهاصات في ظهور التنظيم الحزبي بالمغرب، اعتُبرت كتلة العمل الوطني الأصل الذي ستتفرَّع عنه جل أحزاب الحركة الوطنية.
الإرهاصات الأولى لبروز الحركة الوطنية
قبل بروز التنظيم الحزبي وعلى خلفية الاحتجاج ضد الظّهير البربري سنة 1930، ظهرت مجموعة من الجمعيات والحركات الثقافية والفكرية والتعليمية، والتي أبدت بشكل ظاهري أو باطني نوعا من الإهتمام بالسياسة. ظهرَ بعد ذلك تنظيم الزاوية والطائفة، فالبنسبة للزاوية اعتبرت على مستوى التنظيم السري الذي نشأ في غشت 1930 أعلى هيئة داخله، وقد كانت الزاوية التي انبثقت عن التنظيم السري تضم عشرة أعضاء وفي حدود سنة 1931 ارتفع عدد أعضائها إلى عشرين عضوا وقد تكلف علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني بوضع قانونها الداخلي، وكانت الزاوية هي اداة اتخاذ القرار، أما الطائفة فهي تأتي في مرتبة ثانية في هرمية التنظيم وكانت تعرض عليها مقررات الزاوية وقد التحق بها عدد من المواطنين بلغ ستون عضوا.
إن التطور الذي عرفه نظام الحماية بالمغرب ألحق الدولة المغربية بوزارة المستعمرات الفرنسية وذلك في حكومة Daladier في شهر فبراير 1934 بعد ما كانت تابعة لوزارة الشؤون الخارجية منذ بداية الحماية.لقد ساهم هذا الإلحاق في تأجيج الإحتجاج  لدى السلطان والنخبة الوطنية هذه الأخيرة إذا كانت واجهت الظهير البربري بالتنظيم السري المتمثل في الزاوية والطائفة فإن هذا الإلحاق سيفرز أداة تنظيمية جديدة سميت بكتلة العمل الوطني عملت على إعداد برنامج للإصلاحات تقدمت به إلى سلطان المغرب والإقامة العامة بالرباط والحكومة االفرنسية.ويشكل دفتر المطالب جزء لايتجزء من الإصلاحات التي صاغتها، ينطلق دفتر المطالب من فكرة المطالبة بتطبيق صارم لمعاهدة الحماية التي انحرفت عن مفاهيمها الأساسية معتبرا إياها كمرادف للمراقبة التي تتعارض مع الإدارة المباشرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى اقترح مجموعة من الإصلاحات السياسية والإجتماعية والعدلية…إلا أن عدم هيكلة كتلة العمل التي لم تكن مضبوطة بأي قانون تنظيمي، وعدم وجود من يقود الكتلة التي كانت قيادتها جماعية واقتصار نشاطها على المدن الكبرى، كلّها كانت عوامل عجّلت بانشقاقها.

انشقاق الحركة الوطنية

عرفت كتلة العمل الوطني منذ أكتوبر 1936 تحولات في بنيتها، عبر هذا التحول عن تأسيس الكتلة الوطنية بشمال المغرب من طرف عبد الخالق الطريس. وفي 18 دجنبر سيتم تحويل الكتلة الوطنية بشمال المغرب إلى حزب أسماه “حزب الإصلاح الوطني”، وذلك في سياق ما بعد ثورة فرانكو. وفي سنة 1937 بنفس المنطقة، سيؤسس المَكي الناصري تنظيما جديداً أطلق عليه “حزب الوحدة المغربية”؛ إلّا أن هذه التنظيمات التي ظهرت في شمال المغرب لن تحول دون حدوث انشقاق داخل  الكتلة الوطنية وذلك بسبب الصراع بين قيادتها، حيث ذهب علال الفاسي إلى تأسيس تنظيم أطلق عليه “الحزب الوطني لتحقيق المطالب” سنة 1937، بينما ذهب الحسن الوزاني إلى تأسيس الحركة القومية في نفس السنة. وفي خضم التحولات السياسية في بنية النظام السياسي وفي سياق النضال من أجل الاستقلال، سيتعزز المشهد الحزبي الوطني وبالضبط في سنة 1943 بتأسيس “الحزب الشيوعي المغربي”، سيتم حظر الحزب من طرف السلطات الاستعمارية؛ هذا الحظر سيلاحِقُه إلى ما بعد الاستقلال من قبل السلطات المغربية، وهو ما ترتب عنه منع الحزب بحكم قضائي بحجة أنه يتعارض مع شكل الدولة الملكي ومع الإسلام. سيتمكن بعد ذلك الحزب الشيوعي من عقد مؤتمره الثالث في يوليو 1966 والذي يعتبر منعطفا حقيقيا في مساره، حيث تم فيه استبدال اسم الحزب باسم “حزب التحرر والاشتراكية”، وفي غشت 1969 سيتم اعتقال عضوين قياديين من الحزب وسيقدم الحكم في نفس الوقت على منع حزب التحرر والاشتراكية. وستستمر وضعية الحزب مُعلَّقة بين السرية والعلنية إلى حدود سنة 1974، حيث سيعقد الحزب مؤتمره، مغيّراً اسمه للمرة الثالثة من “حزب التحرر والاشتراكية” إلى حزب “التقدم والاشتراكية”.
وفي سنة 1944 سيتم تأسيس “حزب الاستقلال” على أنقاض “الحزب الوطني لتحقيق المطالب”، كما ستعرف السنة ذاتُها تطوير الحركة القومية إلى حزب الشورى والاستقلال الذي بدوره سيتحول فيما بعد إلى حزب الدستور الديمقراطي. حزب الاستقلال بدوره سيشهد انشقاقا سيتولد عنه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؛ هذا الأخير بدوره سينشق عنه مولود جديد في السبعينات سُمي بالإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية.

ثانيا: موقف أحزاب الحركة الوطنية من طبيعة النظام السياسي

إن لحظة التأسيس لأحزاب الحركة الوطنية لم تكن كافية لإبراز موقفها من طبيعة النظام السياسي، بحيث انصبت جهودها في بداية نشأتها على النضال من أجل الإستقلال، إلا أنه بعد حصول المغرب على الإستقلال ستعرف العلاقة بين أحزاب الحركة الوطنية والنظام منحنى تأرجح بين المهادنة والعنف، حيث تطلع كل حزب لإرساء معالم الديمقراطية عبر عن ذلك من خلال مواقفه ومشاركته في الحكم وهذا ما نستشفه من خلال حزب الإستقلال وحزب الإتحاد الوطنى للقوات الشعبية.

حزب الاستقلال بين المعارضة والمشاركة

لقد بُني موقف حزب الاستقلال على المشاركة الفعلية في السلطة. وهذا مايتبين لنا من خلال تجربته السياسية؛ حيث شارك في حكومة “مْبارك البكّاي” الأولى والثانية، كما ترأس بلافريج الحكومة الثالثة التي لم تدُم إلا 7 أشهر والتي وضع حد نهائي لها في سنة 1958، وبعد إقالة عبد الله إبراهيم سنة 1960 سيعود حزب الإستقلال إلى الحكومة التي ترأسها الملك.
كما تجدر الإشارة أنه قبل صدور الدستور بثلاث سنوات، كان الإنشقاق قد دبَّ في الجسم الاستقلالي وولد حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي نهج نهجا مخالفا للحزب في علاقته بالسلطة والقضايا التي كانت ملحة آنذاك،ومع دستور 1962 نلمس موقف الحزب الذي دعم مشروع الدستور ودعى المغاربة للتصويت بالإيجاب، وفي فترة وجيزة بعد صدور الدستور سيعتبره الحزب بأنه ليس بنهاية المطاف وإنما كان مرحلة سيعمل على تعديله بالطرق القانونية وبالمسطرة التي ينص عليها بنفسه.ومن هذا المنطلق سيشارك الحزب في انتخابات 17 يونيو 1963 وسيحصل على 41 مقعد من أصل 144 مقعد بمجلس النواب، أما بالنسبة لانتخابات مجلس المستشارين فسيعلن عن مقاطعته لها.
بعد إعلان حالة الاستثناء، دعا حزب الإستقلال إلى عدم دستوريتها ونادى بالرجوع إلى الحالة الشرعية، إلا أن حالة الاستثناء هاته تُوّجت بتعديل دستوري عارضه الحزب شكلا ومحتوى وطالب بتطبيق المشروعية الدستورية التي تشكل الجانب السياسي لبرنامج متكامل تمثل السلفية أساسه الإيديولوجي في حين يتجلى جانبه الإقتصادي في إقامة مجتمع تعادلي. انطلاقا من رفضه هذا لدستور 1970، قرر الدخول إلى الكتلة الوطنية إلى جانب حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية والمنظمات النقابية التابعة لهما بتاريخ 28 يوليوز 1970.
بعد سنتين سيعلن الملك عن عزمه وضع دستور جديد ودخل مع الحزب في مفاوضات توجت بالفشل، سيقرر حزب الإستقلال التصويت بلا على مشروع الدستور الجديد، سيعقد الحزب بعد ذلك مؤتمره التاسع سنة 1974 تحت شعار “تحرير التراب وتحقيق الديمقراطية التعادلية” وكان الحزب كما سبقت الإشارة في المعارضة التي مارسها منذ انسحابه من الحكومة سنة 1963، حاول من خلال مؤتمره هذا التطلع إلى المشاركة من جديد في السلطة وفق البرنامج الذي صاغه و الذي يرتكز حسب تصوره على الأسس والوسائل الكفيلة بتحقيق الديمقراطية السياسية.إن الهدف الذي ابتغاه الحزب من هذا المؤتمر هو التطلع من جديد للمشاركة في السلطة، هذا ماسيعبر عنه من خلال مشاركته في الحكومة التي تشكلت 10 أكتوبر 1977 والتي استمرت إلى غاية 1985، وشكلت سنة 1982 الذي عقد خلالها الحزب مؤتمره الحادي عشر الإرهاصات الأولى لتوجهه نحو المعارضة بسبب الكيفية التي اديرت بها القطاعات لاسيما القطاعات الحساسة التي كان يديرها الحزب كالتعليم والخارجية،هذا الأمر جعل الحزب في وضع حرج حاول الإفلات منه بممارسة سياسية مزدوجة، المشاركة في الحكومة وانتقاد ادائها. وبعد سَنتين سيحصُل الحزب على 43 مقعداً في انتخابات 1984 فقط من أصل 304 مقعد، مما سيحذو به إلى التخلي عن المشاركة في الحكومة ليعلن حزب الاستقلال دخوله المعارضة مرة أخرى من جديد وعن مواصلة نضاله من أجل مؤسسات ديمقراطية، سيؤدي به هذا الموقف إلى التقارب مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لوجودهما في المعارضة.
ساهم ذلك في تنسيق نشاطهما فيما يخص دراسة النصوص التشريعية واتخاذ مواقف واقتراحات مشتركة من أجل تعديل النصوص التشريعية ومناقشة ملتمس الرقابة الذي قدم في ماي 1990، وبعد سنة من تقديم الملتمس أي في سنة 1991 سيقدم حزب الإستقلال بمعية رفيقه في البرلمان الإتحاد الإشتراكي مذكرة مشتركة للملك يطالب فيها الحزب بإصلاحات دستورية وسياسية لتصحيح الديمقراطية وإخراج البلاد من الأزمة.لقد أدى هذا التقارب فيما بين أحزاب المعارضة إلى تأسيس الكتلة الوطنية الديمقراطية التي ستضم بالإضافة إلى الحزبين حزب التقدم والإشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي والإتحاد الوطني للقوات الشعبية، ورغم التعديل الذي عرض على الإستفتاء في شتنبر1992 لم ينل رضى الحزب ومع ذلك سيشارك في الإنتخابات التشريعية التي لحقته سنة 1993. سيحصل على 50 مقعدا وسيقرر الإصطفاف في المعارضة، سيقدم الحزب إلى جانب حلفائه في الكتلة مذكرة سترفع للملك في 25 أبريل 1996 تضمنت الأفكار الأساسية المتعلقة بتقوية مؤسسة الوزير الأول ويجعل مجلس النواب منتخبا كله بالإقتراع المباشر وبإقامة جهاز مستقل للإشراف على الإنتخابات وفي الدورة الإستثنائية للمجلس الوطني المنعقدة في 4 شتنبر اندفع الحزب إلى الدعوة بالتصويت بنعم للاسفتاء الدستوري في 13 شتنبر 1996.نظمت الإنتخابات التشريعية سنة بعد دخول الدستور حيز التنفيذ، انتقد الحزب الإنتخابات ورفض النتائج المنبثقة عنها وندد بالتجاوزات والخروقات وأوضح أن النتائج المسجلة استهدفت النيل من الحزب ومن دوره الذي يقوم به نحو إقامة نظام ديمقراطي وإرساء مؤسسات تمثيلية حقيقية، غير أن هذا الطرح سرعان ما سيتجاوزه ليقرر تزكية الحكومة المنبثقة عن انتخابات مزورة بتعبيره إذ سيشارك في حكومة 14 مارس 1998 برئاسة عبد الرحمان اليوسفي.

كخُلاصة لِما سبق؛ تبقى مواقف حزب الإستقلال من النظام السياسي متناقضة تتأرجح بين القبول بمقومات النظام السياسي كما هي مرسومة من قِبل الملك، والممانعة في أحايين أخرى. ساهمت هذه التقلبات في مواقفه بتراجع مِصداقيته أمام الجماهير، مما جعل البعض يصفه بحزب ملكي بامتياز.

المراجع
  1. محمد ظريف: الأحزاب السياسية المغربية من سياق المواجهة إلى سياق التوافق (1934- 1999)، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، مطبعة النجاح الجديدة ص 26.
  2. محمد ظريف: مرجع نفسه ص 26.
  3. محمد ضريف: مرجع نفسه ص 30.
  4. محمد ضريف: مرجع نفسه ص 30.
  5. رقية المصدق: القانون الدستوري والمؤسسات السياسية ، الطبعة الأولى 1988، دار توبقال للنشر ص 23.
  6. محمد ضريف: الأحزاب السياسية المغربية  من سياق المواجهة إلى سياق التوافق (1934 – 1999).مرجع سابق ص 42.
  7. عبد اللطيف حسني: في الأحزاب سلسلة الحركة الوطنية مرجع سابق، ص 17.
  8. عبد اللطيف حسني: مرجع نفسه، ص 17.
  9. عبد اللطيف حسني: في الأحزاب سلسلة الحركة الوطنية  مرجع سابق،ص17 .
  10. عبد اللطيف حسني: في الأحزاب سلسلة الحركة الوطنية ، مرجع سابق ص 12.
  11. أحمد جزولي: الأحزاب السياسية المغربية بين عهدين “من الحسن الثاني إلى محمد السادس”، منشورات اختلاف الطبعة الأولى 2002 ،ص 63.
  12. رقية المصدق: القانون الدستوري والمؤسسات السياسية ،مرجع سابق ص 46.
  13. رقية المصدق: مرجع نفسه ص،54.
  14. محمد ضريف :الأحزاب السياسية المغربية . مرجع سابق ص، 194 195 196 .
  15. محمد ضريف: مرجع نفسه ،ص 223.
  16. عبد اللطيف حسني: في الأحزاب سليلة الحركة الوطنية ، مرجع سابق، ص12.
  17. عبد اللطيف حسني: في الأحزاب سليلة الحركة الوطنية، مرجع سابق  ص13.
  18. عمر بندورو: النظام السياسي المغربي، الطبعة الأولى ص 155.
  19. أحمد جزولي: الأحزاب السياسية المغربية بين العهدين مرجع سابق ص 65.
 
يُـتبع..

سفيان جرضان

طالب باحث تخصص القانون الدستوري وعلم السياسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *