في الداخل .. Içerde

لا سلطة تعلو على سلطان العائلة

Vaay vaaay vaaay….!!

إن كنت، عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة، ممن تابعوا السلسلة، فأكيد أنك ستكون قد قرأتها بنفس النغمة التي ينطقها بها “حسن” ببحة صوته المثيرة ومخارج حروفه البطيئة، متبوعة بضحكته الغريبة والسبحة بين أصابعه، والأهم من ذلك جحوظ عينيه واحمرار خديه وهو ينطقها استغرابا من حدث أو خبر ما؛ وإن لم تكن ممن تابعوها، فالفرصة سانحة لتتعرف على واحد من أضخم الأعمال الدرامية التركية التي حصدت ملايين المتابعات وتربعت على عرش المشاهدات محطمة أرقام سابقاتها من الإنتاجات…!!

يحكي المسلسل قصة أخوين انفصلا قسرا منذ ما يناهز العشرين سنة في ظروف غامضة؛ الأكبر اسمه “صرپ” والأصغر “أوموت” (والذي معناه “الأمل” باللغة التركية، وهو ما يتجلى اسما على مسمى مع توالي الحلقات). وبعد أيام من اختطاف هذا الأخير من طرف عصابة مافيا، يصل إلى بيت السيدة “فسون” قميص ابنها ملطخا بالدم كناية عن موته.. فتستمر الأم المكلومة على ابنها المتوفى والمقهورة على زوجها المسجون (الذي يشتغل قاتلا مأجورا لدى نفس العصابة التي خطفت ابنه لضمان صمته عن جرائمها بعد زجه وراء القضبان) في رعاية فلذة كبدها الوحيد “صرپ” راجية تعويضها ما فقدت، وهو ما لم يحدث رغم كل الجلد الذي تحلت به، فقلب الأم رقيق يحرقه ويمزق نياطه مس شعرة واحدة من صغارها، فكيف بحال أم فقدت جزءا من كيانها.

مسلسل “في الداخل” كسر روتين وابتذال المسلسلات الدرامية التركية التي ما فتئت تبرح أحداثها قصص الحب ومشاكل العشاق التي تعكر صفو علاقتهما لتنتصر هاته الأخيرة بعد عشرات الحلقات وتكلل بالزواج. مسلسل في الداخل دراما تعالج طبيعة العلاقات الأسرية والدور الأساسي للبنة العائلة في تكوين شخصية الفرد ونفسيته. وفي الآن ذاته، هو دراما يغلب عليها الأكشن وطابع الجرائم ومكر العصابات المستمد من الأعمال الأجنبية، تتخللها بعض الرومانسية المحدودة، مع الحفاظ على الروح التركية المعهودة من خلال العادات والتقاليد واللباس والأحياء وما عداها، في مزيج فريد لا يجعلك تستاء أبدا من طول الحلقات (39 حلقة كل واحدة منها في ساعتين وربع تقريبا) بل أن المشاهد خلالها ينجذب للشاشة ولا يكاد يغفل عنها رمشة عين.

ولقد نجح المخرج “أولوتش بايراكتار” في نقل المشاهد بحرفية عالية جدا جعلت المتتبع يعيش الأحداث كواقع ملموس متفاعلا مع كل طلقة مسدس وكل دمعة عين وكل ضحكة انتصار. كما أن اللجوء “للفلاش باك” في مرات عديدة أمر يستجلب فضول المشاهد وتشوقه لمعرفة التفاصيل خصوصا وأن المخرج تعمد إنهاء الحلقات في لقطات تخطف القلوب، ما دفعني مرات عديدة -باعتبار أني حصلت على الحلقات دفعة واحدة- للمرور للحلقة القادمة ومعرفة تفاصيل الحدث قبل إطفاء الشاشة. كمثال على ذلك لقاء الأخوين صرپ وأوموت الذي انتظره ملايين المتابعين على أحر من الجمر لحدود نهاية الحلقة الخامسة والثلاثين في لقطة لم يفهم أي متابع كيف حصلت إذ انقلب المشهد من مقتل “جوشكون” على يد “مارت” لإنقاذ “جلال” (ستأتي تفاصيل الشخصيات لاحقا) في أحد الخرابات، إلى عناق الأخوين فوق أحد الأسطح التي شهدت سابقا عراكا حارا وداميا بينهما.

مواجهة بين صرپ وجلال يتوسطهما حسن ذو الوجنة الحمراء

يتميز مسلسل في الداخل (أو “الدخيل” في نسخته العربية المترجمة صوتا) بجرعة إثارة غير مسبوقة، تنطلق حادة من أول لقطة في الحلقة الأولى (حيث يظهر بطل السلسلة “صرپ” داخل حمامات مديرية الأمن وهو يجهز ذخيرة مسدسيه والغضب يفور من وجهه، ثم يتوجه – بعد طول ذهاب وإياب في مكانه- نحو الساحة لقتل مدير فرع التنظيم الأمني لإسطنبول “المدير يوسف كايا” والذي كان يشرف على احتفال تخرج الفوج الجديد من الشرطة)، ثم تزداد حدتها مع توالي الحلقات لتصل ذروتها قبيل 15 دقيقة فقط من نهاية الحلقة الأخيرة (حيث يصر المخرج على إصابة المشاهد بعدوى الإثارة لآخر نفس عندما يلعلع الرصاص في لقطة تواجد “فوليا” و” صرپ” في نفس القاعة شاهرين الأسلحة في أوجه بعضهم البعض بينما “مارت” مسجي على الأرض في دمائه المخضبة و “جلال” يوجه فوهة مسدسه نحوه).

مسلسل بهذا الحجم لا بد وأن تكون شخصياته من نفس الحجم أيضا بالاعتماد على ممثلين من أجود ما جادت به دور التمثيل والمسارح التركية:

– داود الرجل الخفي: شاهدت خلال حياتي أمثلة كثيرة للإخلاص والتفاني، ولكني لم أر مثل هاته الشخصية أبدا. داود هو القاتل المأجور لعصابة جلال؛ شخص مهووس بعمليات الاختطاف والنهب والقتل دون هوادة، تكفيه فقط رمشة عين من جلال لكي يقوم بالمستحيل لأجل إرضائه وتطبيق أوامره بالحرف الواحد ولو على حساب حياته ومبادئه.
داود يكشف من خلال الحلقات عن سيكولوجية غامضة متشعبة ومتداخلة، بين حبه الشديد لملك وطاعته العمياء لأبيه جلال.

– حسن الوجنة الحمراء: على عكس داود الذي لم ير المشاهد ابتسامته طوال حلقات المسلسل سوى في لقطات جد محدودة، حسن ذو الوجنة الحمراء (أو بالتركية Alyanak) شخصية فكاهية بامتياز، ضحوك يحب الهزل ويحشره في أي موقف مهما كانت جديته؛ لكن وراء هذا الطبع المرح الذي سيضحككم كثيرا، دهاء ومكر خارقان كانا السبب الرئيس لنجاح أو فشل مهمات عدة في مواقف تكررت كثيرا طوال الحلقات. بكل اختصار، حسن يمكن اعتباره “الجوكر” الذي إن أصبح في يدك ضمنت الفوز، لكنه سريع الانزلاق وقد يقلب السحر على الساحر في رمشة عين.

– قدرت: قرين جلال دومان أيام الشباب وعدوه اللدود بعد مقتل نرمين، أخت جلال الوحيدة وحبيبة قدرت التي قُتِلَت في سبيل عشقها له وهيامه بها.
رغم كل الدهاء الذي يتميز به والخطر والسطوة اللذين هدد بهما حياة جلال مرات عديدة، تبقى شخصية قدرت من ذلك الصنف الطريف المضحك شكلا ومضمونا بقامته القصيرة، طريقة كلامه ورقصته العجيبة، ناهيك عن حظ القطط الذي يلازمه والذي يمنحه فرصة أخرى للحياة في كل مرة يكون على شفا حفرة من القبر.

– جلال دومان: أو كما يسمونه “بابا جلال”؛ هو بائع كباب محترف لديه طريقة فريدة في تقطيع اللحم وتحضيره على نار هادئة في المشواة التي تتوسط مطعمه المشهور؛ لكن، وراء هذا الوجه يختبئ جلال زعيم عصابة المافيا التي تهتز أركان إسطنبول بجرائمها والتي لها يد في كل عمليات تهريب وتداول الممنوعات بكل أصنافها، بل إنه الرجل الوحيد الذي تنطلي ألاعيبه على الشرطة وينجو من الكمائن التي تنصبها له منذ عقدين من الزمن كما تنسل الشعرة من العجين.
بابا جلال شخصية داهية وسلطوية بامتياز، تتجسد فيها أمارات الزعيم الذي لا تعلو كلمة على كلمته، ولقد كان لحنكة وبراعة الممثل القدير “تحسين تيكيندور” كل الفضل في إخراج شخصية جلال للواقع حيث تقمصها قلبا وقالبا وبرع في تقديمها للمتتبعين بطريقة جعلت أغلبيتهم يحبونها رغم كل الشر الذي تكتنزه.

– السيدة فسون: والدة الأخوين “صرپ” و “أوموت”؛ سيدة أقل ما يقال عنها أنها ملاك رحمة، إذ استطاعت تجسيد الحب الحقيقي للأمهات وتضحياتهن الجسام لأجل فلذات أكبادهن، فلا المال ولا الصحة ولا الدنيا بأسرها تكفيهن نظرة وحضنا دافئا لهم. السيدة فسون من شدة طيبتها وحنانها ستذكرك بأمك دائما وأبدا، وقد تعتبرها أما ثانية لك من خلال كل ما تفعل لأجل ابنيها (أو ابنها الوحيد ريثما تجد الولد الضائع).

– صرپ يلماز: بطل السلسلة الرئيسي، شاب في منتصف ربيعه الثالث، متخرج جديد من سلك الشرطة والأول على دفعته كاملة. منضبط شجاع شهم وذو حدس قوي، غير أن الغضب والانفعال السريع نقطتا ضعفه اللتان كانتا، كما خوفه الشديد على أمه وحرقته لإيجاد أخيه الضائع، السبب الرئيس في فشل العديد من الخطط في الدقائق الأخيرة من التنفيذ. صرپ مثال حي على بر الأبناء بالآباء وخير قدوة للشباب الصالح النافع لأهله وبلده.

– مارت كاراداغ/أوموت يلماز: بطل السلسلة الثاني والحجر الضائع من عائلة يلماز؛ يصغر أخاه بعامين ولكنه درس معه في نفس الصف بمعهد الشرطة وتخرجا في نفس السنة، والاثنان كالزيت مع الماء لا يتفاهمان أبدا بأي وجه من الوجوه ومتناقضان لأبعد الحدود. مارت أو أوموت هو البيدق الذي وضعه جلال وسط فريق الشرطة ليكون عينه التي ترى وأذنه التي تسمع وعقله الذي يقترح ما يُفشل خطط المدير يوسف وفريقه. ومارت كان عند حسن الظن وأكثر إذ بذكائه وتفانيه استطاع الوصول لمرتبة عالية في سلك الشرطة فكان جاسوسا مخضرما يقلب الموازين لصالح العصابة في كل مرة.

– ملك: شخصية جد قوية وعنيدة، وهي المحامية الشخصية لجلال وعصابته، كما أنه يعزها بشكل غريب لدرجة أنه قد يقتل أي أحد ينوي التقرب منها ولو ان يكون عريسا في مراسم زواج رسمية؛ وهو ما حدث مع صرپ الذي كاد يفقد حياته بعدما علم جلال بمشاعره تجاه ملك فأقام الدنيا وأقعدها.

– إيلام: ابنة جيران عائلة يلماز، وتربت منذ الصغر على يد السيدة فسون. تعمل كصحافية متدربة وتحاول جاهدة في كل مرة تفجير حسها الصحفي من خلال مواضيع جد شائكة عن المافيا والمجرمين، الأمر الذي جعل حياتها وحياة محيطها تتعرض للخطر كثيرا، كما أربكت في مرات عديدة مخططات الأخوين صرپ وأوموت، الأخ والحبيب.

– المدير يوسف: مدير هيئة مكافحة الجرائم بشرطة إسطنبول، والأب المعنوي لبطل السلسلة الأول. شرطي شريف عفيف يحاول جاهدا منذ عشرين سنة للإيقاع بجلال وعصابته ولكن دون جدوى، إلى أن خطرت بباله تلك الفكرة العبقرية لوضع شرطي جاسوس داخل العصابة، وكان اختياره للشخص مناسبا بل وموفقا جدا.
المدير يوسف كايا شخصية ستمقتونها في أول حلقة، لكنكم ستعزونها في الحلقات الموالية، بل وستتعاطفون معها كثيرا فيما بعد.

وإلى جانب كل هاته الوجوه، توجد شخصيات أخرى لها أدوار جد مهمة في المسلسل، على سبيل المثال لا الحصر، “مينيك” الطفل الصغير في جسد الرجل الكبير، و “جوشكون” صاحب اللكنة الجبلية و نغمة أصابعه المميزة “طق طق طاطاطاق”، كما لا ننسى “باريش” محطم الأرقام القياسية في تكسير الأطباق والكؤوس وأسوأ كاتم للأسرار …

خلاصة القول، بمشاهدة مسلسل Içerde يمكن البصم على أن الإنتاج الدرامي التركي جاء من آخر الصف وتجاوز من سبقوه بأميال عديدة إذ أن تركيا أصبحت تصنف حاليا في المراكز المتقدمة من حيث وفرة وجودة الإنتاجات ناهيك عن عدد المشاهدات والجوائز التي تُحَصِّلها؛ وهذا ما قد يدفعنا كجمهور مغربي للتساؤل: هل يمكن أن نتابع يوما ما إنتاجات مغربية بنفس المستوى يا ترى؟

في الداخل .. Içerde

حمزة بوهلال

مدون وعضو فريق زوايا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *