عِشتُ ربع قرن !!

حلّت ذكرى مولدي، الأسبوع الماضي، وماذا بعد، فلسْتُ مهتمّاً كثيراً بهذا الأمر، فتلك سنة مَضت، وأخرى ستمضي، وهكذا.. لكن مهلاً! الأسبوع الماضي أكملتُ خمساً وعشرين عاماً، وبذلك أكون قد عشتُ ربع قرن من الزمان !!؟
بدأتُ أفكر في هذا الأمر لبُرهة، وأنا مستلق على السرير أنتظر النوم كي يأخذني –كما العادة- لذلك المكان الرّحب، غير الخاضع لقوانين هذا الواقع، وكُلّي أملٌ في أن تكون أحلامي صافية (Lucid dream) حتى أتحكّم قليلا في مُجرياتها، لحظات وأجد نفسي في عالم الخيال، منطقه الجنون، ووعيه اللاوعي. 
(افتحْ عينيك يا هذا .. هيه .. انتبه إلي واستمع إلى ما أقول) هزّني هذا الصوت الجَهور وكأنه يوقظني من النوم، جسمٌ مستطيل أمامي يُشبه المِرآة يبعُد عني بأمتار، بالكاد أستطيع رؤية تفاصيله؛ رأيتُ خلاله شخصاً يجلس على كرسي لا تظهر ملامحه، وسط ضباب رمادي يغمُر المكان.
اكتشفتُ أنّي جالس على كرسي، لا أستطيع الحركة رغم أني لست مقيّداً بشيء، فقط أنظُر اتجاه مصدر الصوت، ثم أحاول فهم الأمر، فأنا الآن واع بما يقع، ليست هذه حالة النوم، وليست كذلك حالة اليقظة، هي حالة ما بين الحلم والواقع. حاولت التكلم لكني لم أستطِع، فالظاهر أنّي في هذا الحلم لا يُسمح لي سوى بالمشاهدة والاستماع.
استأنف الشخص المجهول خطابه، قائلا: “هذه المرة، لن يُعيد عالم الأحلام إنتاج أحداث أيامك كما تُحب وتشتهي، ولن يُحقّق رغباتك المختلفة، ولن يستحضر ذكرياتك الطفولية المبكرة، اليوم لا مجال للخيال والسريالية والعبث.”
تأكّدَتْ انطباعاتي الأولى من أن هذا الحلم استثنائي، وتقبلتُ الأمر منتظرا انتهاء هذا الكابوس الذي لا معنى له، بعدها استرسل ذلك الشخص (أو الشبح) في الكلام: “أنتَ بلغتَ سن الخامسة والعشرين، بمعنى أنك عشت ربع قرن من الزمن، وهي المرحلة التي يحلو للبعض تسميتها بـ “اليوبيل الفضي”.  
لعلّك تعلمُ جيدا أنه من أكثر الأمور التي يبحث عنها الإنسان في حياته: الاهتمام، فهو بوعي وبغير وعي يريد أن يكون مُهمّا لدى الناس، وأن يستشعر وجوده لدى الآخرين، لذلك أن يقوم شخص بنُصحك –دون مقابل- لَدليلٌ على أنه يمنحكُ اهتماما، ولكَ عنده مكانة وقدَم صدق، فهو يأخذ من وقته ويستحضر تجاربه ويجلب أفكاره ليُقدم لك نصائح قد تكون لك عوناً. وأنا هنا سأقوم بهذا الأمر، فأنت مهم بالنسبة لي، فقط ينبغي عليك الإصغاء، ولتعلم أني لا أريد منك جزاء ولا شكوراً.
هذه عبارات سأوجهها إليك تتضمن تقييما نسبيا لما عشتَه من سنوات، وتوجيهات عامة أرجو أن تأخذها بعين الاعتبار .. وقبل أن أبدأ، أعتذر إن ضيّعتُ عليك فرصتك اليومية في الغوص في أحلامك أو أوهامك الجميلة، وجعلتك ثابتا صامتا مكتفيا بالمشاهدة والاستماع، ثم لا تقلقْ، سأكون مُختصِراً.
“اعلم أن سنواتك التي مرّت هي بمثابة صعودك لقمة جبل، وما بقي لك منها هو هبوطٌ منه. أنت الآن في مرحلة تحدُث فيها أزمة مقتبل العمر، فلعلك لاحظت قلقك الشديد تجاه مستقبلك، وشعورك بالشك تجاه ما يُحيط بك، وتوقُّعك للأسوأ وفقدانكَ للأمل.
عِشْ لحظاتك الراهنة، فتلك السنوات مرّت بما لها وما عليها، تذكر منها ما يُسعدك واملأ به حزن الحاضر، لكن لا تجعل الماضي يُسيطر عليك، ولا تُبالغ في القلق من المستقبل. حب المعرفة والاكتشاف مُحرّك الحياة؛ لذا أحيانا قد يسود تخوف من عدم بقاء وقت كاف لاكتشاف بقية الأشياء.. استمتع بما لديك ولا تُسابق الزمن على إدراك كل شيء، فكم من أمر أدركته، ثم أصبحَ عادياً.

اعتزلْ كلّ ما يؤذيك، فقد مررتَ الآن من تجارب عديدة منحتك القدرة على التصنيف… عِشْ سعيدا ولا تحاول أن تُثبت للآخرين أنك سعيد. جميلة هي الأفكار السوداوية العدمية في شق منها، لكن لا تجعلها تُسيطر على حياتك، حافظ على عُمقك واغرس بداخله كل أمل واقعي.. حاول أن تخلق السعادة من داخل نفسك، ولا تعتمد على الآخر كليا في ذلك .. فلِلعُزلة والصمت لذة مميزة، لكن على شرط أن تكون قادراً على الاجتماع بنفسك أطول وقت، دون الإحساس باكتئاب أو وحدة.

احذر من تلك المشاعر المتناقضة؛ فالقسوة أن تترنح يوميًا ما بين فرح جامح وحزن موجع .. احذر من أن تُعطي من عمرك وطاقتك وتفكيرك الكثير دون أن يُثمر ذلك شيئا في النهاية.
تحرّرْ من التعلُّق، واترك مسافة الأمان ترقُّباً لأي صدمة محتملة.. كن حرّا في ألا تكون مديناً لأحد، وخذ بهذه القاعدة: لا تسمح لأحد أن يُسدي إليك معروفا ما استطعت .. لا ترفع سقف توقعاتك عالياً، ولا تسمح لتلك “الأحلام” بالتضخُّم، فقد تُصبح أوهاما، واحذرْ من أن تموت حيّاً.
لا تشتكِ لأحد، ولا تنتظِرْ اهتماما، ورجّح كفة الكبرياء على كل ما يمسّّ كرامتك، فلكلٍّ رحلته، يرجو النجاةَ فيها وحده .. قـاومْ ما يُفرض عليك كَرْهاً، لكن بعقلانية وترَوّ، وبدون اندفاع أو حماس زائد، فالتغيرات العميقة تصنعها الدّيْمومة، لا القوة.
نعمةٌ عظيمة أنك لن تعرف خاتمتك، متى وأين وكيف، فعش أيامك راضياً، واحمد الله دوماً، فلو أنِّك تعرف خاتمتك ما كنتُ بَدأت، كما قال “نزار قباني”.

لقد عشتَ ربع قرن، مرّت أغلبُ سنواته عليك طويلة، بحكم فترة الطفولة والمراهقة، فمُرورك –وأنت طفلٌ- بأحداث جديدة متتالية جعلك تُحسّ وكأن الوقت يمضي ببُطء ؛ لكن الآن، فكلما تقدّمت في السن، ستقل الأمور الجديدة التي ستكشتفُها، وهنا يصبح الوقت وكأنه يمر عليك بسرعة، وسط جوّ روتيني يُعيد نفسه كل مرة.. لذلك احذرْ من فخّ الملل والتكرار، وقدّرْ كل يوم يمر عليك، فهو منحة من خالقك.

أخيـراً .. قِس إيمانك بين الفينة والأخرى، واحرص على رضا الله ورضا الوالدين، ثمّ رضاك عن نفسك.
ذكرى ميلادٍ طيبة، ونلتقي إن شاء الله في مرحلة عُمْرية قادمة (اليوبيل الذهبي ربّما).
 
انتهى الحُلم، واستيقظت أخيرا، لا أعلم ما الذي جرى فعلاً، فهذه المرة أتذكر تفاصيل الحلم جيداً بخلاف الأحلام اليومية السابقة التي سرعان ما تندثر بعد اليقظة. حلمٌ غريب لا زلت أتذكر جلّ ما رأيته وسمعته خلاله، لا يمكنني وصفه بالمزعج أو اعتباره كابوسا، لكن أرى فيه ما يستحق الاهتمام.

مرّتْ عليّ سنوات مهمة، الأكيد أني نظرت فيها لبعض من تصرفاتي السابقة بازدراء، واستغربت من مواقفَ كنتُ فيها ساذَجاً، وأخرى حالِماً حدّ الوهم، وغيرها كثير.. لست أدري هل سأعيش مثلها أم لا، وإن عشتُ مثلها في العدد، حتماً ستكون مغايرة لها في الجوهر. نستمعُ للنصائح دون إمكانية الأخذ بها جميعا وتطبيقها، لكن ما أومن به حاليا، هو أن أعيش ما تبقى مني بهدوء، معتزلا ما لا يرضي، وراغبا فيما يُرضي.

Exit mobile version