هل يسعون فعلا لإنقاذ أرواحنا

مقال رأي في اللقاح الروسي

أثار إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحر الأسبوع الماضي، توصل بلاده لإنتاج أول لقاح رسمي محلي لفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) ردود فعل متباينة في كل أرجاء المعمور، بل ونقاشا حادا بين العلماء والأطباء وجدلا كبيرا بين الشركات والمختبرات العاملة على نفس الموضوع بين مؤيد للقاح المزعوم ومشجع لبداية إنتاجه وتطعيم البشر به (خصوصا مع التصريحات الصحفية لرئيس الصندوق السيادي الروسي كيريل ديمترييف بأن ما يقارب عشرين دولة حول العالم طلبت مليار جرعة من لقاح كورونا بشكل مسبق)، وبين معارض له بحكم أن التجارب السريرية لم تتجاوز بعد المرحلة الثالثة ولا يمكن الحكم على نجاعة اللقاح بعد، كما لا يمكن توقع الأعراض الجانبية التي قد تسفر عن أمراض أشد فتكا أو تأثيرات غير محمودة على النظام المناعي كما الجسم بأكمله. في وقت تكتفي فيه منظمة الصحة العالمية بالدعوة إلى توخي الحذر، مشيرة إلى أن المصادقة على فعالية لقاح والموافقة على تسويقه يجب أن يخضعا لإجراءات صارمة.

فهل تسعى روسيا فعلا لتوفير لقاح ناجع ضد الوباء أم أنها تسعى لسبق علمي يخلد اسمها كمنقذ للبشرية من براثن الكوفيد؟


للخوض أكثر في هذا الموضوع، يجب التفصيل في بعض المصطلحات والمفاهيم العلمية التي أضحت تجري على كل لسان دونما اكتراث بمعناها أحيانا.
الفيروسات مثلا (أو الحُمَات بالعربية)، هي كائنات مجهرية لا يمكنها التكاثر إلا داخل خلايا كائن حي آخر، بمعنى أن الفيروس -وبمجرد دخوله جسم كائن حي إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا- يسعى جاهدا للتطفل على إحدى خلايا الجسم وإخضاعها له بكل ما فيها (حيث أن الخلية تعتبر معملا جد متطور يحتوي كل ما يحتاجه الفيروس للتكاثر)، فتصبح الخلية كآلة نسخ تتيح تكاثر الفيروس بطريقة مهولة أحيانا.

أما فيما يخص التلقيح فهو ليس دواء جاهزا يتم إعطاؤه لمريض ما فيشفيه، بل عملية تطعيم للشخص بجرثوم تم إخضاعه مسبقا لعوامل فيزيائية أو كيماوية تجعله ضعيفا (النوع الأول) أو ميتا/خاملا (النوع الثاني) أو تطعيم بأجزاء منه فقط (النوع الثالث)، بحيث لا يسبب أي ضرر للفرد ولكنه يحفز جسمه تلقائيا لإنتاج “أجسام مضادة” تقوم بالتعرف على الجرثوم الذي يعتبر جسما غريبا ثم تحويطه وبلعمته وتدميره. أي أن التلقيح يكسب الجسم مناعة تمنعه وتقيه من مجموعة من الأمراض عند الكبر (فأغلب اللقاحات المعروفة تعطى للصغار والرضع).

بالنسبة لإنتاج اللقاحات، فالعملية تمر عبر عدة مراحل (كما توضح الصورة أدناه) قد تصل ل15 سنة أحيانا في حالة كان الفيروس جديدا تماما ولا أسلاف له؛ وجرى البروتوكول العلمي على أن يَتبع تصنيع اللقاح واختباره مجموعة من الخطوات القياسية:

التسلسل الزمني لمراحل إنتاج اللقاحات (صورة مقتبسة من فيديو تحت عنوان “هل صار لقاح الكورونا جاهزا؟ أم متى؟” للدكتور نضال قسوم على قناته على اليوتيوب)

1- المرحلة الاستكشافية: وهي مرحلة دراسة الطبيعة الفيزيائية والكيميائية للفيروس وخصائصه الجينية، كما التعرف على مضادات الأجسام الطبيعية أو الاصطناعية التي قد تساعد في منع المرض أو معالجته.

2- المرحلة ما قبل السريرية: حيث تتم زراعة الأنسجة أو الخلايا المعدلة على الحيوانات لتقييم سلامة اللقاح المرشح وقدرته على إثارة استجابة مناعية، وذلك قصد تشكيل فكرة عن الاستجابات الخلوية التي يتوقع حدوثها عند البشر. وهنا يمكن إجراء التعديلات الممكنة قبل المرور للمرحلة الثالثة والتي -للأسف- لا تنجح معظم اللقاحات في بلوغها.

3- المراحل السريرية: هنا تبدأ التجارب على البشر المتطوعين، وتمر عبر ثلاثة أطوار :

* تقييم اللقاح المرشح على مجموعة صغيرة من البالغين ما بين 20-80 شخصا.

* توسيع دائرة المتطوعين لتبلغ مئات الأشخاص المنتقين بطريقة عشوائية ولكن مدروسة.

* وتشمل الآلاف من الأشخاص المنتقين بطريقة عشوائية من بقاع عديدة وفق القوانين الإحصائية؛ وهو أهم طور من بين كل الأطوار السابقة إذ أن النتائج تكون تمثيلية بدرجة كبيرة وتعطي تصورا شاملا لحد بعيد عن كيفية تعامل مختلف أنماط الجسم البشري مع اللقاح.

الهدف من المرحلة الثالثة بكل أطوارها هو دراسة سلامة اللقاح المرشح، ومناعيته والجرعة المقترحة وتنزيل جدول التطعيم.

4- مرحلة الموافقة والترخيص والإنتاج: لبدء إنتاج اللقاح وتسويقه، يتجه المنتج لطلب الترخيص من الهيئات المعنية. هاته الأخيرة تقوم بمراجعة دقيقة لوثائق الدراسة، بالإضافة إلى تفتيش المصنع الذي سيصنع اللقاح فيه والموافقة على تسمية اللقاح. وحتى بعد الحصول على الترخيص، تواصل الهيئات الإدارية مراقبة تصنيع اللقاح (من المادة الخام للمنتج النهائي كما الوحدات الإنتاجية والتخزينية وظروفها الصحية).وحتى بعد الترخيص وبداية الإنتاج، تستمر تجارب المراقبة من طرق هاته الهيئات القانونية كما من طرف المنتِج شحصيا بهدف الوقوف على السلامة والفعالية والاستخدامات الأخرى الممكنة.

عملية طويلة متشابكة ومعقدة تمر منها اللقاحات قبل أن تصل لجسم الإنسان بهدف حماية هذا الأخير أولا من أية أعراض جانبية مستقبلية إضافة إلى دورها الرئيسي في تمنيعه ضد فيروس معين، إذ من غير المعقول أن نعالج مشكلا بمشكل آخر قد يكون أشد فتكا من سابقه.

فهل بوتين وإدارته واعيان بهذا الموضوع؟

هم بكل تأكيد عالمون وعارفون بكل هاته التفاصيل، لكن وللأسف طغت الأجندات السياسية والسباق المحموم نحو مزاعم إنقاذ البشرية على سطح المبادرة، فأضحى عامل الزمن هو المقياس الأساس ضاربين عرض الحائط أسس العلم ومسيرة قرون من التفكير العقلي والعمل التجريبي، ومتجاهلين أن العلم لا يمكنه أن يسيّس من دون أخلاق، بل إن الحيادية والموضوعية هما أساسا التقدم العلمي الصحيح، وأي مزج غير أخلاقي بين الحرفتين “يبقى-حسب فيبر- دون عمق إلا أن يستجيب لدعوة الضمير والوعي”.

فلقاح “سبوتنيك-في” المطور من طرف معهد “غاماليا” في موسكو بتعاون مع وزارة الدفاع الروسية، لم يتجاوز بعد كل المراحل المسرودة أعلاه، إذ لم يتجاوز الطور الثالث من التجارب السريرية، مما يعني أن النتائج الحالية التي يقول عنها الروس أنها مرضية وأعطت استجابة قوية دون تسجيل أعراض جانبية غير متوقعة أو خطيرة، هي محض نتائج لعينات صغيرة وجد محدودة من البشر الذين هم غالبا من دولة واحدة يعشيون تحت مناخ متقارب وطبيعة موحدة. ناهيكم عن أن هذه النتائج أيضا “غير منشورة وغير متوفرة بتاتا ولا يعرف أحد عنها شيئا غير أصحابها الذين جربوه على ابنة بوتين على حد زعمه”، أي عدم وجود دليل علمي يمكن قراءته ودراسته ونقده من طرف العلماء.

أيضا، اللقاح الروسي اعتمد على عملية وضع البروتينات الغشائية لفيروس كورونا على غشاء فيروس آخر غير مؤذ ثم حقنها في الجسم للتجربة -حسب الفيزيائي الفلكي نضال قسوم-، بيد أن الطريقة المعتمدة من طرف المختبرين الرائدين حاليا في تطوير لقاح كورونا (مختبر أكسفورد في بريطانيا مع شركة AstraZeneca، والمعهد الصحي الوطني الأمريكي NIH بالتعاون مع شركة Moderna) تستند للنوع الثالث المذكور أعلاه، بحيث يقومان باستئصال جزء من الحمض النووي للفيروس وإدخاله للجسم لتبدأ مرحلة التعبير الجيني وتوليد البروتينات اللازمة. وتشكل البروتينات طبقات تشبه الطبقة البروتينية المحيطة بالفيروس تحفز الجهاز المناعي للتعرف عليه كجسم دخيل ومن ثم تكوين أجسام مضادة وفقا لذلك.
كلتا الطريقتين فعالتان إلا أن كل ما هو جيني في عالم البيولوجيا له دقته الخاصة ونتائجه الطيبة غالبا، وحسب الدكتور رودريك سلافتشيف، الباحث الرئيس والخبير الصيدلاني في جامعة واترلو، فإن “استخدام الحمض النووي لتحسين الاستجابة المناعية لمحاكاة العدوى الفيروسية بأقرب صورة ممكنة، يحفز استجابة مناعية أكثر فعالية“.

وحسب مقالة منشورة بموقع Sky News عربية بتاريخ 15 غشت، فقد أظهر استطلاع للرأي داخل روسيا أن 52٪ من الأطباء يرفضون قطعا التطعيم باللقاح الجديد، وأشار 66٪ منهم إلى قلة المعلومات التي تثبت فعاليته، بينما تحدث 48٪ من هؤلاء الأطباء عن أن لقاح “سبوتنيك في” جرى تطويره بسرعة كبيرة. ناهيكم عن أن البروفيسور ألكسندر تشوتشالين أنهى عمله في مجلس أخلاقيات وزارة الصحة الروسية، بعدما شن هجوما شرسا على لقاح “سبوتنيك في” الجديد ومبتكريه وحاول منع تسجيله بدعوى “السلامة”، غير بعيد عن باقي التنديدات والاحتجاجات والتشكيكات التي طالت اللقاح من مئات العلماء والأطباء حول العالم.


خلاصة القول، لست بمقام علمي ولا منهجي يسمح لي بالحكم على نجاعة اللقاح من فشله، ولكنني -من خلال ما قرأت وما استوعبت من المقالات المنشورة وبعض الآراء العلمية لذوي الخبرة- حاولت تلخيص ما يدور في الساحة الدولية حول هذا الموضوع في خطوة بسيطة لإثارة فضول كل القراء للخوض في الموضوع أكثر وجلب حقائق وحجج دامغة تفند أو تؤيد المزاعم الآنية بتوافق تام مع أخلاقيات الطب والبحث العلمي الرصين. وبين هذا وذاك، تستعر نار ماراثون محموم بين كبريات القوى العالمية تتسابق لنيل الريادة بأي شكل من الأشكال.

هل يسعون فعلا لإنقاذ أرواحنا

Exit mobile version