خطوات قدر‎

عندما تصبح الفاجعة قدرا محتوما

كانت سعيدة ونشيطة مجتهدة وطموحة، كلها أمل وتفاؤل، كانت تعشق والدتها وشغوفة بها لما تغدقه عليها أمها من حب وحنان فائقين، مما كان يزيدها تقدما وتفوقا وعطاء في دراستها، فكانت تتلهف على أن تجعل الابتسامة دوما حليفة ثغر من أنجبتها وتعبت وضحت كي توصلها إلى أرقى مستوى في الحياة، كانت والدتها تقف دوما شامخة رغم ظروفها القاسية وكانت تخفي أي حزن على فتاتها أو مشكل عويص يخذل خطواتها، فكانت الأم والوالد بالنسبة لهذه الأخيرة تشعرها بحنان كلا الطرفين وتوفر لها الأمان والحماية كي تسير نحو الأمام بخطى النجاح والاستمرارية.

وهذا ما كان يشجع الفتاة ويدفعها لتكافح كي تصد كل حزن يتجرأ دخول فؤاد من ربتها وعاشت مضحية تفني عمرها لأجلها وتسهر في سبيل راحة ابنتها، كي توفر لها رغد العيش وكل ما يشعرها بسعادة وفرح في هذه الحياة شكلها شكل كل أم مكابدة كل صعب ومعطاءة في سبيل راحة نسلها. لذلك كانت الابنة المتفوقة دائما تقف كالجندي المتأهب والمتصدي لكل هجوم، وكانت شبيهة بحارس المرمى الذي يتفادى دخول كرة خصمه إلى مرماه، وذلك من أجل فوز فريقه.

حياة الابنة كان نجاحا تلو نجاح منذ نعومة أظفارها، وكلما كبرت بات ينمو معها فوزها فيزيد أمها افتخارا بها فتفرح لفوزها وكأنها هي المتفوقة الناجحة، مما يضاعف سعادتيهما هما الاثنتين لدرجة أنهما أصبحتا النموذج المثالي لحيهما كأم وابنتها تعطيان للجيران وللأهل أروع تفسير لمعنى العطاء والسعادة والتفاني من أجل كسب النجاح.

أخيرا تحقق الحلم وأصبحت الابنة أشهر مهندسة وأنجحهن، لا يهمها النجاح المادي أكثر مما يعنيها افتخار والدتها بها فهي كانت تعشق والدتها وتحبها حبا لا يوصف، وكانت تكد وتعمل لتهدي لها القسط الكبير من السعادة قبل أن توفره لنفسها وكانت تقول: “والدتي تخلت عن كل حياتها لأجلي، توفي والدي-رحمه الله- وهي حامل بي وحين ازددت أفنت شبابها كله في سبيل رعايتي، ووهبت كل حبها لي وحدي، فكيف لا أقدم لها نجاحي وتفوقي كأبسط هدية تضفي على عمرها السعادة والافتخار بي؟ ما ذلك سوى قسط هزيل والذي لا يوازي ركلة واحدة من ركلاتي وأنا بين أحشائها”.

مر الوقت والابنة تترعرع وتتفوق، والأم مواظبة ومكدة لا تشكو صراعات الحياة وظروفها القاسية، بل هي دوما مبتسمة في وجه ابنتها كي تدعمها في ذلك التفوق وتشجعها على مواكبة ما تطمح لتحقيقه في حياتها من منجزات. فلا شك أن كل أم في هذه الدنيا تتمنى بأن تصل ابنتها نحو غد أفضل وأروع من الذي عاشته والدتها، وبالنهاية تدعو الله بأن يرزقها بركة عمر كي تفرح وتعيش لحظات عرس من ربتها، فتشعر بأنها فعلا قد أنجزت مشروعها حين أخذت بيد فتاتها حتى أدخلتها القفص الذي يقال عنه ذهبي وآمن. وفعلا تحقق المبتغى ووصلت الفتاة إلى قمة مرادها، لم يذهب لا جهد الأم ولا الابنة سدى بل على العكس من ذلك، نجحت الابنة بل تفوقت وبامتياز وأصبحت مهندسة معمارية بارعة تطمح إلى خدمة بلادها وبذل كل ما في وسعها لتستحق على حد قولها اسم مهندسة ممتازة تخدم على الوجه الأفضل والرائع. بعد ذلك تحقق حلم الأم الأرملة، إذ تقدم شاب وسيم لخطبة ابنتها وهو زميلها في العمل فوافقت الأم بكل رضى على المشروع الثاني والمهم في حياة ابنتها، ودعت للاثنين بالسعادة والتوفيق في حياتهما.

وبينما الجميع يستعد لحفلة الزفاف، بكل نشاط وغبطة، وصل الضيف الغالي وهو القدر، أتدرون كيف وصل؟ زارهم بسرعة البرق، كان ضيفا خفيفا كسرعة البرق، رحلت الأم دون أن تودع بسبب الوباء، وغاب الخطيب مفتقدا تحت الأنقاض، وظلت العروس المهندسة الجميلة حائرة مذهولة لا تدري من تنعى؟ حادث أليم ومروع، وقدر محتوم لا يرد ولا مفر منه. أتدرون من هي هذه الفتاة؟؟ إنها بيروت التي ذاقت الفقدان والدمار، فكم رحل فيها من شباب وشابات في عمر الزهور؟ وكم تيتم فيها من عروس وعريس؟ رحل الآباء تحت الأنقاض وتركوا الفلذات لم يروا بعد الأنوار، وانتظرت الأمهات تحقيق الأحلام فماتت الأحلام ورحلت حتى الأمهات مع الانفجار اللعين، وأصبحت بيروت كفتاة مكلومة تتوالى فيها القصص الحزينة، وأصبحت بناياتها خرابا ودمارا ومات المواطنون موتا بطيئا تحت الثرى، فتعذب أحبتهم فوق الأرض وهم يسمعون الأنين وينتظرون الأشلاء وأجزاء الجثث. لا تنزف بيروت وحدها بل يتألم معها ومع المستنزفين والمحرومين والمكلومين أمثالها كلمن تذوق ألوان هذه العذابات والدمارات؛ يتعذب بحرقة من يتفرج ولاحول بيده ولا قوة.

خطوات قدر‎

نادية حجاج

ربة بيت، مدونة مغربية قاطنة بالديار الإسبانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *