صورة الآخر في السرد العربي-1-

مفاهيم و مناهج الاشتغال

-مدخل في السرد والسردية:
إذا اعتبرنا بأن السرد يشكل خاصية مميزة للهوية الإنسانية، يمكن صياغة تعريف فلسفي جديد للإنسان بأنه كائن سارد. ويبين البحث الأركيولوجي أن السرد قديم جدا، وموجود منذ وجود الإنسان على الأرض، يكشف هذا الأساس الأنثربولوجي الطبيعة الكلية والكونية للسرد، والحاجة الوجودية إليه للبقاء آثار الإنسان على الأرض، وبتعبير Roland Barthes : “يوجد السرد بأشكاله اللانهائية – تقريبا- في كل الأزمنة، والأمكنة والمجتمعات. إنه يبدأ مع تاريخ البشرية ذاتها. (…) إنه عالمي وعبر تاريخي وعبر ثقافي، ويوجد في كل مكان كما الحياة”.

ينظر هذا النموذج المعرفي الذي نستلهمه إلى السردية كأنموذج للصياغة الذاتية للذات العالم، ويؤسس فرضياته على إنجازات الأنثربولوجيا والأدبية المعرفية، وحسب Paul Ricoeur ” يقود إلى تصوير الواقع وبالأخص تجربتنا الزمنية الغامضة، والفاقدة للشكل”.

-الذات والهوية في السرد:
“السرد هو محاولة الذات ضد الفناء من خلال تأصيل الهوية“. من هنا نشأت إشكالية تداخل السرد والهوية لدى الفلاسفة فكان وجود أحدهما نفي للآخر حيث العلاقة بين الإثنين غير تفاعلية أو تواصلية، بينما يرى آخرون العكس. وهنا يمكن تصوره بشكل أكثر وضوحا من خلال مفهوم الخطاب ونستدل على ذلك من خلال الخطاب ذاته، فالخطاب هو سرد ارتقى من المستوى الفردي إلى المستوى الجمعي.

المفكر إدوارد سعيد يحدد مفهوم الخطاب باعتباره “ تشكيل عالم متماسك ومتخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتندغم فيه أهواء، وتحيزات، وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بتجلياته وخفاياه، كما يصوغها بقوة وفاعلية خاصتين، فهم الحاضر للماضي وإنهاج تأويله له، ومن هذا الخليط العجيب، نسج حكاية هي تاريخ الذات لنفسها وللعالم، تمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة وتوجيه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيا” (الثقافة والإمبريالية). نقاد رواد ما بعد الحداثة يجمعون على هذا التعريف، ويفترقون في تحديد دور الخطاب في الممارسة الإنسانية بشكل عام. من هنا فنظرية ما بعد الحداثة تطرح الخطاب كحامل لهوية جمعية داخل فترة زمنية محددة لمجتمع ما، بين تفشل في استيعاب فكرة حضور الهوية مع السرد في الزمن. فموت الشخصية وذوبان الهوية في السرد يعطي السرد قوة يكون فيها خارج مدارات الزمن والذات، وهذا ما قال به Roland Barthes فإذا كان الخطاب تعبير عن هوية جمعية داخل الزمن، فإن السرد هو تعبير عن هوية فردية داخل الزمن. أي أن الممارسة السردية تعبير عن وجود وفاعلية الذات.

-الصورة la figure:
إمكانية الحديث النقدي عن مطلق الصور السردية لابد أن تتسم بتعميم كبير لا يمكن تفاديه إلا بتخصيص الكلام عن الصورة في نسقها النوعي (رواية- قصة- قصة قصيرة- خرافة- مقامة..) بحيث تصبح النتائج هنا ملزمة لنوع سردي بعينه من أجل ذلك ولضبط أكثر للمفاهيم، أشير إلى أن الصورة التي ستحظى باهتمامنا هي التي سنستشف سماتها من نوع سردي محدد هو الرواية. وسنصطلح على تسميتها “بالصورة الروائية” والتي تستقي بعض حدودها من معارف مختلفة.

هكذا تشترك الصورة الروائية مع لفظة “الصورة” العربية في دلالتها العامة على “الهيئة والشكل“، وعلى “النوع والصفة” (كما جاء في لسان العرب لابن منظور)، وتواكب الجذور اللغوية العميقة للفظتي Image و figure الفرنسيتين، فحسب الاشتقاق اللاتيني كانت Image تلحق بالجذر Imitari أي التقليد وfigure تلحق ب fingere بمعنى التشكيل والتركيب والتجهيز والتنظيم (رولان بارث Phétorique de l’image ).

الصورة الروائية هي أيضا نقل فني، ومحاولة لتجسيد معطيات الواقع الخارجي بواسطة اللغة. كما أن لها رابطة ذهنية بالصور المتداولة في الفلسفة والمنطق (الصور العقلية أو الحسية أو الذهنية…)، ورابطة دلالية ووظيفية بالصور والرموز الأسطورية كما فسرها Crilbert Doctand في كتابه (الصور الأسطورية وأوجه العمل) إلى غير ذلك من العناصر الأخرى.

رغم كل هذه التعاريف فمصطلح الصورة لا زال يتسم “بالضبابية” كما يصفها هنري ميشونيك. لأنها ظلت مرتبطة دائما بفن الشعر وبالصورة الشعرية من حيث هي تكثيف بلاغي أو مجاز. غير أن من أهم من سيعالج الصورة من هذا المنظار غاستون باشلار Bachelard الذي وازاها بمشروع الظاهراتية بحيث يميز ظاهراتيا بين الصورة والاستعارة. وهو بهذا يتيح لنا التمييز بين الصورة الشعرية والروئية التي هي أصل مبحثنا.

بعد هذا التقديم نمر إلى الشق الثاني من العنوان والمتعلق بالآخر. فمن هو الآخر الذي نقصده؟ أهو آخر بالقياس إلى الذات الفردية (أنا) أو الجماعية (نحن)؟ أهو آخر بالقياس إلى غير الأقارب؟ أم هو (آخر) بمعنى ثقافي حضاري أو عرقي؟ يظهر من هذه التساؤلات أن الآخر يتحدد في جميع الأحوال ب “السلب”. فهو من ليس بالذات أو الأنا، ومن ليس بالأقارب، ومن ليس النحن. وهذا التحدد السلبي له يبين أن مدلوله مجرد، إذ لا يشير في الواقع إلى فرد أو جماعة بعينهما، كما أن تعدد مرجع دلالته يجعل معناها نسبيا متغيرا، فينحصر بالقياس إلى الذات، كل الآخرين الأقارب والأباعد أيضا، وينحصر بالقياس إلى الأقارب في الآخرين الأباعد، وينحصر بالقياس إلى الهوية في كل من لا تربطه بنا نفس السمات والثقافة والانتماء (الأنثربولوجيا← شتراوس) ← (أنظر الصفحة 5).

بعد هذه التعريفات المقتضبة أرى أنه يجب أن نتفق على أي آخر نقصد، وحتى ننجح في هذه العملية يجب أن نحدد عن أي ذات نتحدث وذلك في إطار السرد كمبحث من مباحث الأدب المقارب وفي إطار “صورة الآخر”.
-الآخر في الأنثربولوجيا ← نموذج كلود ليڨي شتراوس:
في كتابه “العرف والتاريخ” الذي نشرته اليونسكو سنة 1952 يلاحظ شتراوس أن المجتمعات البشرية قوى تعمل باتجاهات متعارضة بعضها يعمل في اتجاه الاختلاف وبعضها في اتجاه التقارب والتشابه ويقول أيضا إن من الاختلافات ما ينشأ من العزلة، ومنها ما ينشأ بالعكس عن الغرب إذ تفعل في هذه الحالة اعتبارات كالرغبة في التميز والمحافظة على الذات، وعلى هذا فتنوع الثقافات ينتح عن العلاقات بين المجتمعات أكثر مما ينتج عن عزلتها. وتنوع الثقافات كما يقول قلما فهم على وجهه الصحيح بما هو ظاهرة طبيعية ناتجة عن علاقات مباشرة وغير مباشرة بين المجتمعات، بل كان الناس يرون فيه تشوها في التكوين أو عارا، وكان رد فعل البشر تجاه الأشكال الأخلاقية والدينية والاجتماعية والجمالية البعيدة عنهم ردود احتقار واشمئزاز، وظهر ذلك في وصف اليونان والرومان الثقافات التي تختلف عنهم ب “البربرية” و”المتوحشة”.

ويلجأ شتراوس إلى التمثيل للاختلاف إلى النظرة بين ابن الثقافة من داخلها وابن ثقافة أخرى ينظم من الخارج بالاختلاف الذي قالت به النظرية النسبية بين رؤية راكب القطار للقاطرات الأخرى بحسب سرعتها واتجاهها نحوه أو عكسه، فيقول “إن كل عضو من أعضاء الثقافة متضامن معها على نحو وثيق كتضامن هذا المسافر مع قطاره. ومنذ ولادتنا يُرَسخ المحيط في أذهاننا، بألف محاولة شعورية ولا شعورية، منظمة معقدة من الإحالات، مؤلفة من أحكام قيمة ودوافع ومراكز اهتمام، بما في ذلك النظرة الانعكاسية التي تفرضها علينا التربية حول صيرورة معارفنا التاريخية، والتي بدونها تصبح هذه الحضارة غير معقولة أو تبدو متناقضة مع التصرفات الفعلية. ونحن ننتقل تماما مع نظام الإحالات المشار إليها، وتتعذر ملاحظة واقعات الخارج الثقافية إلا من خلال هذه التشوهات التي تفرضها علينا هذه المنظومة، هذا إذا لم يبلغ بها الأمر إلى حد منعنا من ملاحظة أي شيء من هذه الواقعات الثقافية” ص485. يخلص شتراوس في النهاية إلى “ضرورة المحافظة على تنوع الثقافات، في عالم مهدد بالرتابة والتشابه، وتعهد التقاليد المحلية المختلفة والحرص على سمة التمايز بين كل ثقافة وأخرى.

صورة الآخر في السرد العربي-1-

فاطمة الزهراء زغدود

أعمل أستاذة للغة الإيطالية، أكتب مقالات باللغة العربية كما أترجم من الإيطالية للعربية. أهتم بالترجمة في مختلف المجالات كما أحب كتابة المقالات في مجالات الأدب، التاريخ، الحضارة، المثاقفة، الفن و غيرها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *