تدوينة متصدرة

الولاعة

“الولاعة”، “لْبْريكا”، أو بلغة أهل شمال المغرب “الموتْشِيرو” … آلة بسيطةُ التركيبة، صغيرة الحجم، بلاستيكية أو حديدية بحجم قطعة شوكولاتة توضع بجانب فنجان قهوة كلاسيكية.. حارسٌ شخصي لتاج زبد القهوة ولتمايُل نسائمها الدافئة المنبعثة من الفنجان كعمود دخانِ مدفأة شتوية، لكن مفعولها أكبر بكثير من حجمها الحقيقي؛ فبالإضافة إلى وظيفتها التقليدية في توفير شعلة نار زاهية زرقاء تضيء مقدِّمة سيجارة بيضاء مستقيمة كفانوس رمضاني على شُرفة زُقاق مصري ضيّق مفعم بالحياة في “خان الخليلي”؛ هي أيضاً وسيلة تواصل اجتماعي استثنائية تتجاوز اللغة الشفهية ومكانتها التقليدية.. تتجاوز خُطاطة التواصل من دالٍّ ومَدلول ووَسيط.. هي لوحدها لغة سَلِسة صنعتها أو صنعَها مستخدموها الكُثُر.. إنهم معشر المدخّنين في فضاء عمومي مميَّز كالمقهى، لا تتعب أنامل مستخدميها من تكرار تلك الحركة الروتينية لإيقاد الشعلة بالإبهام، كما لا يتأثر التموج السيمفوني المتمايل لتضاريس البصمات الدقيق بفعل الاحتكاك الخشن ..
تقتطع لنفسها مكانَ عروس على المنصة الشرفية وتجعل من لحظات ارتشاف المشروب لحظاتِ نوستالجيا تاريخٍ مَنسي، تُعدّ ضيفا مُرَحّبا به، شفرة تواصل سريعة تذيب أرق التواصل الروتيني، معها تضمحِلّ رتابة الكلام وتُغني عن خروج قطعة اللحم الطويلة من جحر الأفواه المتفننة في كل شيء، إلا التواصل.. والتي لم تعد تقذف سوى لهيب حارق بكلام فارغ مملّ أحيانا أو بآخرَ نابٍ تزكُم ذبْذباته المسامعَ أحياناً أخرى.. 
بوجودها يكتفي الشخص بابتسامة أو إيماءة تلخّص طلبه دون مقدمات وأخرى ترحّب بالطلب دون تحفظ، بل، وفي كثير من الأحيان، قد تكتفي بإشارة عفوية تعبيراً عن رغبتك في استعمالها. لن يلومك صاحبها عند أخذها وهذا مؤكد.. فقد أصبحت من نوادر “المتفق عليه” في عالم المخالِفين والمختِلفين… وصارت “بساط علاء الدين” الذي يحملك مسافراً بين دروب قصص وروايات وذكريات دون جواز أو تأشيرة ولا حتى طائرة. لحظاتُ صمتٍ تحت ضجيج وفوضى المدينة.
مفعولُها سحري يوقف الزمن لحظات لاستدراك التعرف على الذات المتعبة بشقاء العيش… استراحة محارب للقاء الثور الموالي… كل هذا يحدث فقط بين ثنايا لحظات حياة مسروقة…
كبسولةُ زمن تُطابِق بين الماضي، الحاضر والمستقبل.. وتجرّ نسيج تهافُت الزمن وتسرُد نوستالجيا أحداثه على زرابي صالون تقليدي مزركش… واقفةً عند محطات قطار الحياة لحظة بلحظة.. ليتوقّفَ الزمن عندك كشارب كأس نبيذٍ مُرّ..
 

الولاعة

خالد وديرو

مدون و طالب إعلام