من شاعر إلى مفكر

هل تستطيع بلاغة الشعر تعويض المنطق الفكري؟

فجأة لم يعد شعري كفيلا بترجمة المشاعر التي تغزو كياني، فقد هبت الرياح آخذة تلك الأيام التي دفنها تراب الماضي، ووهبني الحاضر سموا روحيا، وغيوم المستقبل غدت سماء صافية، وأدركت أن تصحيح أخطاء الماضي هي من أكبر أخطاء الحاضر.

مرت فترة هامة في حياتي فيها كنت مهتما بالشعر وكان هناك نوعا من الارتباط الروحي مع هذا النوع الأدبي الراقي، ومع تعدد قراءات القصائد والشعراء، اكتسبت مفردات وأسلوبا فوق المتوسط، لتكون لي القدرة على ترجمة مشاعري لأبيات شعرية.

لحسن القدر كان تخصصي في الثانوية أدبيا، لذلك كنت مهتما بتحليل القصائد ودراستها بشكل أعمق. لكن الشعر العربي خدعنا، فهو توهنا برومانسيته العالية في طرحه للقضايا، وكأن البيت الشعري سيقوم بطرح حل لمشكلة فحياتنا، ومقصدي أننا نحن من تصرفنا مع الشعر بطريقة خاطئة، لم نفصله عن الواقع ونأخذه كفن منفصل فقط للتعبير عن مشاعر فنية وحسية، ولكن انتظرنا من القصيدة، أنها تعالج مشاكلنا بالانتظار، كأبوالعلاء المعري (973 -1057م) له قصيدة في قمة التشاؤم يقول فيها:

تعبٌ كلها الـــحــيــاة فمـــا أعــــجــبُ .. إلا من راغــبٍ فـــــــــي ازديـــــــــادِ
إنَّ حزنـاً فـي ساعــة الـموت أضـــعــاف .. سـرورٍ فـي ســـــاعــــة الـــمـــيــلادِ
خُلـق الــنـاسُ لـــلــبــقــاء فـــضـــلَّــت .. أمةٌ يـــحـــســبــونــهــم لــــلــنـــفـــادِ

فهذه الأبيات ستجعلك قاعدا في غرفتك معتكفا وبين يديك كومة كآبة تجعل منها وسادة، ول لم تتصرف معها على أنها أدب وفن كلامي فقط، هذا لا ينقص من قيمة الشعر العربي بل هو القيمة التي تميزنا، ولكن التعامل معه وتصرفنا فيه كان يذيب الواقع.

أنا لم أكن يوما ضد الشعر العربي ولن أكون، لكن برأيي أنه يجب أن نضعه بمكانه الصحيح، لا يجب أن نتوقع منه حلولا، ويجب أن نفرق بين الشاعر والمفكر، الشعر هو مجازي يمكن أن يورطك في مجازه، الفكر أو المفكر واقعي يمكن الاتفاق معه أو لا، لكن لو لم تتفق ستظل، تبحث عن أجوبة أخرى وأفكار أخرى، ولكن إن وقعت في مصيدة مجاز القصيدة، فأنت في ورطة لأن القصيدة سبيل جيد للجنون والمرض، ولكن الفكر هو علاج لما جاءت به كل القصائد، فالشعر هو الشعور بعد تكافؤنا مع الطبيعة، يعني هروب من وهم إلى وهم آخر، الفرار من شيء إلى نفس الشيء على مستوى آخر.

يمكن أن نقول إن الفكر هو فرار من الأكاذيب من خلال أفكار ومشاعر وممارسات جديدة، أما الشعر فهو الانتقال من عبث قديم إلى عبث جديد، التفكير يدفعك إلى الخروج من كل ما هو عبث، لأن البلاغة اللفظية هي من أكبر الأخطار على الاتكاليين والكسالى، فالبلاغة تستطيع أن تتصنع حروبا وجرائم وأوهاما وبطولات زائفة.

فنون الفصاحة والفن الكلامي تستطيع أن تصنع مجتمعات بائسة، تتقبل الحياة تحت كل ظروفها، وتجعلك متكيفا عصبيا وذهنيا مع وجودك في أسوأ الحالات وأحسنها، الشعر وبلاغته استطاعا أن يتحولا إلى استفراغ نفسي، أدخلانا في كثير من الحالات في صراع مع حضارات على جميع المستويات. الشعر في أرقى مستوياته لا يستطع أن يصنع حضارة الفكر، ولكن له القدرة على صنع حضارة فيها تصنع كل أنواع الشعر.

التفكير في أرقى مستوياته هو أعلى أنواع الاحتجاج، وأسلوب الاحتجاج، أعلى وأعمق من التعبيرات الانفعالية، التي أتى بها الشعر. التفكير هو احتجاج المفكر على الطبيعة، والشعر هو استسلام الشاعر لها. القصيدة هي الهروب من المسؤوليات ومحاولة للتخلي عن الالتزامات، وحالة من التوتر النفسي، أما الفكر فهو تمرّد تفكيرك على تفكيرك نفسه، فالشاعر هو من ينتفع بالحياة، والمفكر هو الذي تنتفع به الحياة؛ وما أعنيه هو أن هناك فرقا بين الشاعر والمفكر.

محمود درويش شاعر عظيم ولكن ليس مفكرا عظيما، ولكن أدونيس شاعر رائع ومفكر عبقري بمكن أن تتفق معه أو لا، لكنه قادر على قلب الطاولة وزعزعت أفكارك في أي كتب من كتبه كــ: المحيط الأسود، الثابت المتحول، الصوفية وسريالية ،.. وإن لم تتفق معه في هذه الكتب الفكرية ستغفر له في أول قصيدة من قصائده، من جمال شعره. لكن محمود درويش كان ينقصه إدوارد سعيد كي يصبح أدونيس، والسياب كان ينقصه علي الوردي ليصبح معروف الرصافي.

هكذا كانت رحلتي من الوجدان إلى المنطق والعقلانية، كانت الأكسير لبعث الحياة بكينونتي، والدواء لسقمي، فقد كانت العاطفة لغزا يغزو فكري ووجداني، وقلما يبدع شعرا وحبره الأسود لا ينطق إلا بكآبتي، عجوز عشريني ظمآن إلى نور شمعته ذات الضوء المعتم في ظلمته، اليوم قد تحول قلمي من مترجم لمشاعري إلى مترجم لأفكاري، هكذا بدأت أخاطب الأنا بداخلي بالفكر لا بالعواطف التي تبدع في اللوم وخلق “أنا” زائفة بداخلي.

من شاعر إلى مفكر

محمد ايت اباحمو

كاتب، و طالب بالمدرسة العليا للأساتذة تخصص فلسفة ، 20 سنة، و مهتم بقضايا العصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *