تعيس أنا

انها النهاية حقا

تعيس أنا، رمتني الأيام بضراوة واستقبلتني الأرصفة بحفاوة، الأرصفة تستقبل الكل بمساواة بالغة وللتوضيح فقط فهي ترمي الكل بنفس المساواة أيضا...رأيتني الصنديد العتيد الواعد، لكنني انجرفت وساقتني التيارات إلى غير ما أريد، عصفت بي الرياح يمنة ويسرة وتراقص جسمي الهزيل بينها كما اكتسح جوفي البرد فصرت أزرق كقطعة الجليد، تمنيت الموت لكنه ما كان مقدرا، إلهي ما هذا الذي يحصل؟ تقاذفتني الأزقة من زقاق إلى آخر حتى أفل البرد العتي بل وهب صمت رهيب ومقيت كأنه يبشر بحدث مروع قادم، كانت الثواني الأشد فظاعة في حياتي، كانت محاكة ومتناسقة كالعتاب السرمدي لنفسي كل ليلة، بعدها ارتأيت أن أستكين إلى ركن حتى ينجلي ضوء الشمس…

وبعدها لامست قطرة ماء زرقة جبيني، انتشلتها بيدين مرتعشتين ولم أتحسسها جيدا فيداي باتتا متجمدتين من جراء البرد القارس، تلك القطرة حملت خبرا أليما.

بدا كأنها ستمطر وفعلا بكت السماء بحرقة كما لم تبكي من قبل بل وبللت كل شبر من الأرض حتى أضحى الزقاق كأنه مستنقع في البرية، ليلة موحشة هته التي أنا أعيشها، جلست القرفصاء في مظهر الذميم الذليل، وما زاد الطين بلة هو أنني كنت أرتدي ملابس رهيفة أرهف من شغاف القلب لم تحفظني من اجتياح الأمطار لي، والتي ضربت بكل ما تملك من بطش وحدة، بدوت واهنا ضعيفا وجسمي اتخذ حركات تترجم بدقة متناهية منتهى الضعف والهون الذي بداخلي، بدى أنه اتخذها لا إراديا لكنها تتماشى حقا مع شعوري وحالتي، لم تتوقف أسناني عن الإصطكاك ولا الأشجار عن الإصطفاق، وتدفقت نقاط جمة من كأس صبري فآويت إلى ذاتي كي أنسج عالما لعله يكون أرحم من هذا الحالك الموجع من حولي، عيوني تملأها الحيرة ورأسي مطأطأ خاضع لا يعرف السبيل إلى أين، تملكني إحساس بالذل وتسربت دموع طاهرة من جفوني، دنوت من أحد الجدران وارتميت أبكي وأردد إلى أين المفر؟ تلاشى كل ما تصورته قبلا وأفل المجد والأمل، بل وخرت قواي دون سابق إنذار وفي جو مريب مميت تكاد تقشعر له الأذهان وتصرخ من جرائه القلوب، ربي أخرجني مخرج صدق وأدخلني مدخل صدق ولا تطردني من رحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء، تحطمت بفعل الإنكسارات المتتالية التي شقت صدري إلى اثنين بل ولدغتني بالسم حتى تسرب إلى دواخلي وأخذ مني الضعف ما أخذ، حينها لبست قبعة المحتضر وصرت أبكي على أيامي وأتحسر على ما فات، لم أرد أن يكون هذا مآلي بل ولعنت كل وقت تافه كنت أجاهد فيه من أجل تحقيق فرحة أحدهم، آه لو أنني اعتنيت بنفسي جيدا…! يرخو الهون علي سلطته وتجبره، فأين أنا من هذا؟

تمنيت العودة إلى سابق عهدي، ماتت مبادئي ووافتني المنية وأنا على مشارف الشباب، ترنحت وتأبطت، جعلت السواد لونا يهيمن على دنياي بل ولبست ثوبا رفيعا من الأسى والحزن حدادا على الوعكة التي أصابت أيامي… دقت السعادة الباب ولم أتزحزح من مكاني وكأنني ظننت أنها لحظية وستزول بل وإنها تحجب عني حدثا أليما قد يكسر إيماني بنفسي وكأنني صرت أعاني الشيروفوبيا، صار لدي خوف من الفارط رغم مروره، لكن المرور هذا صاحبته انكسارات وألام مسحت كل ذرة قوة في جسمي الذي بات هزيلا تتغدى عليه يرقات الخوف والرهبة كما تحيط به الثعالب الآدمية من كل جانب وضفة.

صرت سجين نفسي… ولم أعد الهمام المغوار، أحببت نفسي حبا ليس بمقدور بشري أن يتحسسه أو حتى أن يتخيله، حب يكاد يلامس الشغف والهيام، ليس بإمكان أحد أن ينسجه… ما عدت الألمعي المفلول، مخرب من كل مكان كأشلاء هنا وهناك، ما عدت أرخي ديكتاتوريتي على ذاتي أو أملك زمام الحكم ونطاق الملك، أفل كل شيء وكأنه لم يكن في الأصل.

أنغام فيروز لم تشبع غليلي وألحان مارسيل خليفة لم تشفي سواكني، ضائع في اللاجدوى واللامجد معا، عدو أفكاري وأسير ثقافتي، فررت مسرعا نحو سقيفة منزل عتيق آيل للسقوط، وقفت لهنيهة ثم تحسرت على نفسي ومنيت ذاتي لو أنني في حال المنزل هذا فعلى الأقل هو آيل للسقوط وليس مخربا ومندثرا مثلي، سجدت سجدة وطلبت من مقلب القلوب أن يتدبر حالي وأن لا يقلب قلبي على الهداية، فرغم كل هذا العسر إلا أن الثقة بالله تبقى أمرا محتما لا ينمحي مني، جثوت على ركبتي وجهت بصري إلى السماء وأحسست بضيق في التنفس ورعشة تتسرب إلي، أخذت شهيقا وكأنه الأخير ونزعت عني الثوب الهزيل الذي لا يكاد يحجب البرد القارس، نظرت نظرة بائسة ثم سقطت كجثة هامدة وكأنني رميت بسهام أو بشظايا من الزجاج، ارتميت على جانبي الأيسر وأحسست بألم مروع في كاحلي وصعقت من هول ما حصل فعرفت أنها باتت النهاية حقا…

تعيس أنا

محمد أشرف الشاوي

محمد أشرف الشاوي، كاتب وشاعر مغربي، طالب بكلية طب الأسنان بالدار البيضاء، أعشق الكتابة والتدوين وكل ما له علاقة بالنثر والشعر، أكتب عن العديد من المواضيع في شتى المجالات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *