الموت

عن الفقد و المرض و الرحيل الابدي

زارني في الآونة الأخيرة صديق الموت (المرض)؛ أضحى يلازمني كثيرا، أعتقد أنه أحب مجالستي أم أن رُفقتي راقَتْه، أجهل أو أتعمد جهْلَ غايته تحديدا من هاته الزيارات المتكررة رغم وضوح الغاية الوحيدة التي لا أنكرها في قرارة نفسي، الغاية التي لا تعلوها ذرة غبار، لكنني أخشى حقيقة الأمر وعجزي أمام حتميته. 

إنه يريد  تَهييئي  لاستشراف  خليله المقرب ” الموت ” الذي يخطف المرء دون علمه ويوقظه من سباته، ليذهب به إلى سبات أعمق، وهذا دون سابق إنذار، إن كان  طيِّب الحظ أو بدونه هكذا وبسرعة مخيفة وباردة، فيثير في النفس الفزع.

إنه ما يَنفك يأخذ الكثير ممن أراهم في بداية يومي، وأسمع عنهم لاحقا في نهايته أنهم اختفوا للأبد كأنهم لم يكونوا يوما، فهانت قدرتهم على صَدّه أو الفرار منه.

كالظل هو لا نراه، لكنه يلاحقنا أينما حلَلْنا، يأخد كل يوم إن لم نقل كل لحظة روحا بين يديه، فيأتي قاصدا الهدف الذي لا يمكن أن يعود بدونه، لا يرحل دون أن يأخذ معه أحدا ممن آن أوانه، يأخد تلك الوجوه والملامح التي أراها كل يوم، بعضهم عرفتُه منذ نعومة أظافري والآخرين ما إن علمت مؤخرا بوجودهم حولي، أقرباء كانو أم غرباء، لكنهم ليسوا غرباء حقا، لم يكونوا غرباء عن عيناي اللتان  كانتا ترمقهم يوميا على الطرقات وفي الشوارع وفي أمكنة متعددة، كانت روحي تألفهم وتألف وجودهم…

أنطلق صباحا في طريقي للكلية بخطواتي الخفيفة المُتأنية، فأرى وجه الواحد هنا ووجه الآخَر هناك، أراهم ماثلين أمامي يملؤون الأمكنة، وأرواحهم تسكن كل فناء و ضجيجهم يمنح للجدران نفَساً فينبض كل شيء بالحياة ..أعود في اليوم التالي سالكة نفس الطريق التي أمشي فيها عادةً فلا أرى لهم أثراً ولا ريحاً،غير أطياف وأشباح لهم  لا تزال هناك تراقب خطواتي، وأمكنتهم التي أصبحت خاوية، تناديني بصوت خافت، أن صاحبنا هجرنا وها نحن الآن في غمرة الوحدة والحنين، فيتردد صداها ويلتقطه مسمعي، فأُتَمتم عبارات الأسى بجفوني الذابلة.

تلك الأمكنة والمقاعد والبيوت والأروقة كلها أصبحت يتيمة، مهجورة مهما امتلأت بالحشد، وتعالت أصوات قاطنيها الجدد فهي تظل بلا حركة، باردة في قمة الجمود.

نحن ندرك جيدا أن المرض غالبا ما يأتينا كإشعارٍ للموت، والموت إشعارُ الفَقْد، ورسالةٍ محتواها أن وقت الرحيل قد حان، و أننا سنرحل عن  هذا العالم إلى أبعد مكان هناك إلى اللامنتهى، لكن أثرنا  سيظل حياًّ في الآخرين لطيفا كان أم العكس، ستبقى أطيافنا تجوب أمكِنتنا التي تَيَتّمت بعدنا، وتزور من أحببناهم  كثيرا من حين لآخر، تواسيهم وتخفف عنهم مرارة الفقد الذي انطبع في أفئدة كِلينا، هذا إن لم  يضعونا في قائمة النسيان للأبد فنموت أيضا  داخل ذاكراتهم  الضيقة بعد أن بِتْنا في عداد موتى الأرض وأمسى حضورنا وغيابنا سيّان…

الموت

سناء حبيبي

طالبة حقوق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *