عالم ما بعد الوباء

أنعود لسابق عهدنا؟ أم أن الكوفيد سيلازمنا؟

كيف لي أن أصف متلازمة هذا العام، سنة 2020، سنة الانقلاب الفيروسي، شهد العالم برمته خلالها حدثا وسم تاريخه الأبدي، ظهور وباء حديث تحت اسم “كورونا”، المستعمر الذي غزى العالم بدوله ومدنه وأزقته وبيوته.

منذ أن ظهر هذا الوباء ترك في ذاكرتي حدثا غريبا مفاجئا جعل مكانه الرسوخ، خلّف صراعا بين التحليل والتفكير وبين المنطق والتخيل، وأطلق العنان لأسئلة تكتسح داخلي، كأنه استجواب صحفي صامت أحد أفراده مفقود، هذا الكائن الرهيب الذي يحمل معه رقاقات إلكترونية وبائية ثم ينشرها في كل البقاع، كنت أراه ينظر من بعيد يقف وقفة المتأمل المستمتع وهو يرى تلك الأرواح التي أصيبت ويرقص على نغمات الصراخ والبكاء؛ على الذين رافقتهم المنِيّة بسبب لعنة كورونا، كان يبدو لي العالم مظلما يسوده السواد والعتمة، وكنت أرى في عينيه عالما مشمسا ساطعا كأنه فصل صيف يمتد طيلة شهور السنة، كان يرى في نفسه حاكم العالم ومالكه ونحن عباد مأمورون يحكمنا رجاله في مختلف البقاع.

“أهذا ما سولت لك نفسك يا كوفيد؟ إصابتنا والتسبب في وفياتنا؟ لكن أنا متعتي في خوفك من الرحيل”
قال لي بصوت يلوحه الاستهزاء “هاه، أنا لا أهزم ولن أخسر كل مابنيته لشهور وربما لأعوام !!”

كنت أزداد أملا وقوة عندما أعلم أن المؤشرات في تراجع وكان ذلك ينسيني قليلا من الضجر الذي أصابني في هذا السجن، عفوا، نسيت، “الحجر الصحي” الذي أستظل تحته لشهور أسترق النظر عبر ذلك الزجاج المضبب.
استغليت هاته الأحداث بادئة في التخطيط والتفكير للغد، لعالم مابعد الوباء ولمصير كورونا. صرت أردد بيني وبين نفسي “هاقد اقتربت ساعتك يا كوفيد.. اجمع أمتعتك على مهل فقد حان الرحيل”

أصبحت أتصور مصير هذا العالم بعد “عالم ما بعد الوباء“، هل سيظل عالما يخيم عليه الخوف والهلع ويسكنه شبح كورونا أم سيعود كما كان سابقا؟ هل سيداوم الناس على تلك التدابير بالرغم من مغادرة الوباء أم أنها ستتلاشى وتذوب؟

أفكر في عالم الغد، هل سنهزم صلتنا بالماضي أم أنه لن يحدث أي انقطاع؟ إنني أرى رؤية استشرافية لهذا العالم الجديد، لكن هل سيعود مثلما كان؟ ربما ليس بجميع تفاصيله.. سيكون مثل الجيش الذي يعود من المعركة فاقدا لأحد أعضائه، سيرافقه أثر الوباء والخوف الذي يسكن النفوس بصمت، إنني أراه عالما هادئا سيغير وسيتغير به الكثير، سيتخلى عن التفاهات ويركز عن الأهم.

لا يجب أن ننسى أن هذا الوباء شكل حركة انتقالية في حياتنا ولا أن ننكر أنه أظهر ماكان مخفيا فينا وماكنا نجهله في أنفسنا، فلقد أتاح لنا فرصا خِلتُ شخصيا أننا أضعناها.. ولكن بالرغم من كل ما اكتشفناه إلا أننا سئمنا من هذا الوضع…

آآآه يا وباء، أنتظر بلهفة لحظة رؤيتك تجر حقيبتك خاوي الوفاض تحمل معك فقط خيبة أمل كبيرة، وأنا أهتف لك “انتصرنا عليك انتصرنا” وأكررها بكل عنفوان.. حينها ستموت تحت دعسة قدمي بدون رحمة لأنك لم ترحمنا.

ظل كوفيد صامتا مركونا في الزاوية شاحب اللون كالخاسر في اليانصيب حيث خيم عليه الهلع الذي زرعه فينا..
أجل كوفيد، حينها سأنظم على شرف هزيمتك قصيدة وأرفع نخب قافية موحدة ولما لا تصير معلقة من معلقات امرؤ القيس بلمسة حديثة.

إنني أملك نظرة تفاؤلية للغد كنظرة شوق غسان كنفاني لغادة السمان؛ نظرة بألوان قوس قزح، سنستقبل هذا العالم بألوان صيفية ممزوجة بأخرى ربيعية، ستوحدنا لمة العائلة والأحباب من جديد مع ضحكات تسري في الفضاء وسأعانق الخيوط الذهبية بنسمات سمائية، بعد طول الغياب سأعانقك كعناق العائد من المنفى…
عالم مابعد الوباء هو عالم محاكاة مع ماض سليم وحاضر أليم ومستقبل حكيم.

عالم ما بعد الوباء

هند العنيكري

طالبة بالمدرسة العليا للأساتذة،شعبة اللغة العربية شاعرة ومولوعة بسبك الأحرف وكاتبة حرة مدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *