تأملات حول فكرة الدولة.. بحثٌ في المفارقات عند ذ.العروي (2)

ضمن الأفق التحليلي الذي أوردناه خلال الجزء الأول من هذا المقال، ينتقل المفكر المغربي ذائع الصّيت إلى تشريح مفهوم الدولة في الوطن العربي باعتبار الدول العربية في جلّها يعد الإسلام أحد مرتكزات البناء الهيكلي للسلطة داخل نسقها؛ هنا يتساءل الأستاذ عبد الله العروي، “ماذا نعني بالدولة الإسلامية؟ وعلى أية مادة نعتمد لنتصوّر واقعها التاريخي ولنحلّل آلياتها وجهازها؟”
إن توصيف الدولة باعتبارها “إسلامية” يُقرّ المفكر المغربي بصعوبتها نظراً لعملية تكوُّن الدولة ذاتها على أساس أن العرب بدورهم مرُّوا بالتطور نفسه الذي عرفته المجتمعات الأخرى من نظام العائلة والملكية والسلطة السياسية، فبعد الفتوحات الكبرى ورث العرب أجهزة الدولتيْن البيزنطية والفارسية وهي أجهزة متماثلة إلى حدّ كبير، فنشأت الدولة التاريخية في آسيا الغربية مبنية على الحق الإلهي وسلطة فردية مطلقة مستهدفة الجبر والقهر والرفاهية، وبعد فتوحات الاسكندر المقدوني عمّت أنظمة الدولة الآسيوية العالم المتحضر بعد أن اختفى نظام المدينة في اليونان، وبعد قرون حصل التطور ذاتُه عند الرومان وانقلب الحكم إلى نظام إمبراطوري متأثراً بأجهزة الدولة الآسيوية. ولمّا ظهر الإسلام وجد نفسه في عالم لا يعرف سوى تلك الأجهزة فورثها العرب تلقائيا رغم أنها تعارض أهداف الإسلام والتنظيمات القبلية؛ فحسب المفكر المغربي، إنه عندما نتكلم عن الدولة الإسلامية نعني بالضرورة مُرَكّباً من العناصر الثلاثة؛ العربي والإسلامي والآسيوي.
في هذه اللحظة، يقرّ ذ.العروي بأنه لا مناص من استحضار التقسيم الذي وضعه ابن خلدون عندما تحدث عن الدولة واعتبرها أنها لا يمكن أن تخرج عن مُلك طبيعي وهو حَمْل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، أو مُلك سياسي وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المَضار والمفاسد، وإما خلافة تحمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية.
اضطر المفكر المغربي عرض هذا التقسيم لكيْ يوضح أن تصور ابن خلدون الذي مفاده أنه لا يوجد في تاريخ الإسلام دولةٌ قامت على العصبية وحدها أو على الدعوة الدينية وحدها، أو على التنظيم العقلي وحده، بل لا بد من تواجد الدعائم الثلاث؛ فإذا ما أردنا أن نقف عند التاريخ الإسلامي، فسنجد الدولة الجاهلية والخلافة الحقة والخلافة الصّورية، وسنعثر ضمن السياق نفسِه على الملك الطبيعي ثم السياسة العقلية والخلافة، لننتهي بوجود أيضا العصبية والعدل ثم الشرع.. كل هذا لا يخرج عن إطار الدولة الإسلامية المركّبة من الدَّهرية العربية والروح الإسلامية والتنظيم الآسيوي. يخلص ابن خلدون في الأخير إلى اعتبار الحكم الذي جربه المسلمون في الغالب هو الملك الطبيعي الممزوج بشيءٍ من السياسة العقلية، بعد أن مرّوا بفترة قصيرة جداً كان الحكم فيها خلافة؛ الأمرُ الذي حتّم على الأستاذ عبد الله العروي وضع ثلاثة مواقف لا تتنافى بقدر ما تتكامل حيث كلّ موقفٍ يعلّل الآخر.
يرتبط الموقف الأول بطوبى الفقيه الذي يصعب ضبطه إزاء السياسة والدولة والإسلام وتأتي الصعوبة من كون الفقهاء يتكلمون دائما عن الخلافة التي لم تطبق إلا في مدة قصيرة وبإلهامٍ رباني، في حين أنهم يعيشون تحت نظام لا يبث إليها بأوْهى الصّلات على أساس أنها أي الخلافة تستلزم ثورة خلقية لا يقدر على إذكائها إلا الأنبياء. الموقف الثاني يتجسد في فردانية الفيلسوف الذي يطالب بالعقل وحده ويعبّر عن رفض شامل للحكم السُّلطاني القائم، في حين أن طوباوية الفقهاء تنتهي بقبول ذلك الحكم باعتباره ضرورة وقتية مع التطلع إلى زواله بعون الله وتوفيقه. الموقف الثالث متعلق بواقعية المؤرخ والأديب على نحو الذي سبق وتطرّقنا لجزءٍ منه عند ابن خلدون.
في الأخير، يقدّم لنا المؤرخ والفيلسوف نماذج متخيّلة عن السياسة والدولة ففيها تطلع إلى عالم بلا دولة وفيها في الوقت نفسه، قولٌ وتثبيت للدولة، إن الطوبى السياسية في الإسلام تلك التي يسميها الفقيه “خلافة” والفيلسوف “المدينة الفاضلة”، ليخلص إلى اعتبار تحليلات ابن خلدون متشعبة يصعب استيعابها، فواقع الدولة لديه يرتبط بالتسلط حيث لا يمكن تصور دولة بلا قهر وبلا استئثار جماعة معينة للخيرات المتوفرة وبالمقابل لا يمكن تصور الحرية إلا خارج الدولة أي في نطاق الطّوبى.

إن قراءة مختلف التحليلات التي قدمها الأستاذ عبد الله العروي سواء المرتبطة بالفلسفة اليونانية، أو الفلسفة الغربية، أو تلك المتعلقة بالفكر الإسلامي، تبقى غاية في الأهمية. فرغم اختلاف وجهات النظر عن مفهوم الدولة، فإن وجهات النظر هاته تمخضت عن الأثر التي تركته المقالتين السالف ذكرهما فكلما تقدمنا نحو المقالة الأولى إلا واقتربنا نحو أطروحة الفكر الإسلامي في شكل الخلافة التي تعمل على خدمة الفرد في الدنيا وتهييئه للآخرة، وهو الأمر نفسه الذي تؤكده جزء من الفلسفة اليونانية في شخص أفلاطون على شكل المدينة الفاضلة. وفي مقابل ذلك كلما ابتعدنا عن المقالة الأولى نصطدم لامحال أمام تنكر لها والسقوط حتما في المقالة الثانية، التي تمثل جزءاً من الأطروحة التي يدافع عنها فكر الفلسفة الغربية.

Exit mobile version