حلاق الحي

غالباً ما تجد محلّه مزركشاً بمقصّ بلاستيكي من الحجم الكبير على الواجهة الزجاجية وكأنه تذكيرٌ بحتمية القِصاص، ووَجه شابّ وسيمٍ أجنبي بقصّة شعر زاهية لم يسبق للحلاق أن حاكَ مثلها على رأس أحد زبنائه.. ولا أحد من الزبناء يأمُل أن تُنحت تقاسيمها على شعره المجعّد الشرس.. لكنها على الأرجح علامة مميزة.. كلمة سر بين الحلاق وزبنائه المفترَضين المارّيـنَ صدفة أمام محله علّها تصطاد رؤوسهم عند اشتداد كثافة الشعر التي لا تطاق..
حلّاقُ الحي، غالباً، دائمُ الابتسامة أمام زبنائه كضرورة مهنية؛ أو أنها مصدرُ رزق تفرض-تفترض وتجذب لها الأفراد الاجتماعيين أساساً، فتجدهم قادرين على استمالة ومسايرة أمْزِجة الزبائن وطِباعهم صعبةِ المِراس على اختلافها؛ بين مبتسم ومكفهرِّ الملامح.. مبتسمين بالضرورة أمام وجه المتعَبين نهاية أسبوع محبط من العمل الروتيني.. صبورين أمام طلبات الزبون بين ضرورة الإسراع وتجنب التماطل.. بين القَصّة التقليدية المتداولة.. والقَصات العصرية اللّامتناهية-المتطلِّبة.. متحملين صراع أجيال من قصة لأخرى..
حلاقُ الحي غالبا لا يجادل، لا يخاصم.. فهو سيّد المجمع وعليه أن يُطبْطِبَ خواطر الحضور بين مؤيد ومعارض.. لا تهمه الأفكار بقدر ما تهمه رؤوس أصحابها.. يحس وكأنه يقلص من حدتها أو يهبُها عفواً تاماً دون شروط.. مبعداً مِقصَّه الرقيب كلما اشتد عضده المشذب بإحكام على قطعة جلد بالية.. ليُجنّب المسلمين رؤوسهم المستسلِمين للقدر خطرَ الجَزّ لا قدّر الله.. أو حتمية القرع لأسابيع معدودات في انتظار امتلاء  تلك الفراغات الفوضوية على الرأس خلال فصل الربيع القادم!
 
حلاق الحي يحيّي الجميع كل صباح ..بمناسبة وبدونها.. عربون محبة وصِلة وصلٍ في انتظار قصة الشعر القادمة.. و إزالة الزغب الزائد على الوجه وسط الأسبوع.. يحاول ملء فراغه مندهشا أمام شاشة تلفازه الصغير.. الذي لا يقتنص سوى القنوات الأرضية بسَماجتها وخوائها..أو ينصرف للإهتمام بأسماكه الصغيرة في الحوض المائي على الزاوية.. أو قفص ميليمتري لطيور مزركشة.. سجن صغير يتحرر من خلاله الحلاق المسجون احتياطيا داخل علبة محله و تفكيره..
حلاق الحيّ يحافظ على طيبوبته بين القاصي والداني.. الشاب والكهل.. السخي و البخيل.. القصير والطويل..الجاد والمراهق.. إلى أن يكتشف أن مقصّه خان أسنان مُشْطِه برصانتها وتراصِّها ووفائها.. موقّعاً على شيك أبيض لأطراف الزغب الكثيف في غفلة منه.. فهو من يدندن لها في غفلة من المُشط عندما يتراجع الى الخلف فاسحًا المجال للمقص لـيُساوِم قبل القص الذي لا رجعة فيه..

أنْ تُسْلِمَ رأسك للحلاق.. يعني أن تسلم نفسك للقدر دون إمكانية تفاوض أو تراجع.. أن تقبل القصة على اعوجاجها.. وأن تنبطحَ أرضاً تواضعاً أمام المصير المحتوم؛ وتبتلع المرارة.. لأن حلّاق الحي لا يَحْلِق!

 

خالد وديرو

مدون و طالب إعلام