“الموت”.. لايعني لنا شيئا

لمحة فلسفية عن ماهية الموت

لقد أرَّقت فكرة الموت الإنسان على الأرض منذ الأزل، فسجل لنا التاريخ أساطير وفلسفات وديانات حدثتنا عن الموت، لكل منهم وجهة نظر وتصور يختلف عن الآخر، ولعل أقدم هذه الآثار الموجودة اليوم وأشهرها رحلة جلجماش الطموحة نحو الخلود.

هناك إذن من نظر الى الموت بطريقة سلبية اي باعتباره نهايةً وعدم، وهناك آخرون نظروا اليه عكس ذلك اي من وجهة نظر ايجابية وبالتالي اعتبروه “إنفتاحاً وانكشافا أمام الوجود وتحقيقا كاملا للحرية” وعلى رأس هذه الفلسفات المدرسة الوجودية.

كان الفيلسوف التشاؤمي آرثر شوبنهاور يقول:“الموت والحياة سيان عندي، فهما متساويان“. وعندما سُئِل ذات مرة لماذا لا تنتحر؟ أجاب: ولماذا أختار الموت وأفضله على الحياة؟ إن جواب صاحب “الإرادة فكرة وتمثل” غير مقنع. إذ ما كان على السائل إلا أن يواجه جوابه بسؤال آخر هو: ولماذا تختار الحياة وتفضلها على الموت رغم أنهما متساويان؟ هنا كان سيتكرر نفس الجواب ويعاد نفس السؤال، وهكذا دواليك الى ما لانهاية. وسنجد أنفسنا أمام سؤال فلسفي من قبيل أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة؟

سخِر فريدريك نيتشه من فلسفة شوبنهاور في مؤلفه الشهير “هكذا تكلم زرادشت“-بعدما كان متأثرا بها- ووصفه هو وأتباعه ب“الذين تعبت منهم الحياة” ثم نصحهم ب”أن يسرعوا لإنهاء حياتهم” لأنهم عبء عليها.

فلماذا هذا التشبث بالحياة اذن رغم اكتشاف الإنسان أنها عبثية ولامجدية؟ ولماذا نفضلها على الموت رغم ان الإثنان متساويان؟

يقدم لنا الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي ما يراه جوابا على لسان إحدى شخصيات روايته “الشياطين” اذ يرى أن ما يمنع الإنسان من أن يقتل نفسه هو شيئين لا ثالث لهما، إنهما: الألم والآخرة.

ورغم أن صاحب “الاخوة كارامازوف” يشدد على أهمية هذين العاملين كعائقين يقفان أمام إرادة الإنسان في الإنتحار إلا أنه يصفهما ب”الوهمين”.

إن دوستويفسكي وهو الذي تألم كثيرا وعذب نفسه بسبب فكرة الموت هذه-كما نقرأ في رسائله- يعتبر أن الألم عائقا أساسيا أمام الإنتحار، لكن السؤال الذي يؤرقه، هو هل الألم فعلا موجود؟

نعم، إن الألم موجود، لكن فقط بالنسبة للناس الذين يفكرون، فهناك أناس ينتحرون في لحظة هكذا فجأة، هؤلاء لايخطر في بالهم الألم لأنهم لايفكرون، أما بالنسبة للذين يفكرون فالأمر يختلف، إن الألم عندهم عنصر رئيسي، يحول بينهم وبين تحقيق ارادة إنهاء حياتهم، لكن الحقيقة أن هؤلاء “المفكرون” لايخشون الألم، اذ لو تصورنا مثلا أن رجلا واقفا تحت صخرة جبلية وفجأة سقطت عليه من فوق ومات فهل سيشعر بالألم؟ لا، ولكن السامع بالقصة سوف يشعر بالألم، لماذا؟ لأن خوفه هذا ليس متولد من الألم وإنما من الخوف من الألم، وبعبارة أخرى فإن الإنسان المفكر يخشى من الخوف من الألم لا من الألم ذاته.

هذا فيما يتعلق بالألم أما عن الآخرة، فإن السؤال الذي يقف أمام شخصية دوستويفسكي هو؛ أليس هناك أناس لايؤمنون بالله وبالتالي لايؤمنون بوجود عالم آخر، عالم ما ورائي؟ ونحن نضيف هنا أوليس شوبنهاور نفسه كان ملحدا؟ فما لهؤلاء إذن لاينتحرون؟

إن الجواب هو أن هؤلاء يؤمنون بأن الإله “ليس موجودًا، ولكنه موجود” كيف ذلك؟ “إن الصخرة ليس فيها ألم، ولكن الألم هو الخوف من الصخرة. الإله هو عذاب الخوف من الموت. فالإنسان الذي سينتصر على الألم والخوف، سيكون هو نفسه الله. وسوف تبدأ عندئذٍ حياة جديدة. عندئذٍ سوف يظهر الإنسان الجديد. سيكون كل شيء جديدًا. وسوف يقسمون التاريخ عندئذٍ إلى عهدين: عهدٌ يمتد من الغوريلا إلى انعدام الإله، وعهدٌ يمتد من انعدام الإله[…] إلى التحول الجسمي الذي يطرأ على الإنسان والأرض. سيصبح الإنسان إلها، وسيتبدل جسمه. والكون سيتحول، والأعمال ستتحول، والعواطف والأفكار. ألا تعتقد أن الإنسان يتبدل عندئذٍ جسم؟

إذا استوى على الإنسان أن يموت أو يحيا فسوف ينتحر جميع الناس، وربما كان هذا هو التبدل” إن جواب شخصية دوستويفسكي هذا يقودنا مباشرة إلى نيتشه وإنسانه المتفوق”الذي يقتل الإله ليحل هو محله!” ومن ثمة مباشرة الى الفلسفة الوجودية، إن فكرة دوستويفسكي هذه بالتحديد هي التي عبر عنها جون بول سارتر في كتابه “الوجود والعدم” عندما عرَّف الحرية بأنها “قدرة الإنسان على إعدام الموجود”.

لقد نظرتْ الوجودية الى الموت لا بوصفه نهايةً وعدماً، بل بوصفه انكشافا وانفتاحا تاما أمام الوجود، تقول أحد شخصيات سارتر -الميتة- في مسرحية الأبواب المغلقة “إن حياتنا على الأرض لم يبقى منها شيء، وحان الوقت الآن لنجمع الحساب” بما أن الوجودية(خاصة وجودية سارتر وهايدغر)، توحِّد بين الأنا والفعل، وتقيم بينهما علاقة مماهاة، “أنا-فعلي” وتعتبر أن “الإنسان ليس شيئا آخر غير ما يفعله“، فما يبقى على الأرض إذن من أفعالنا هو نحن، وعندما يوجِّه الآخر نظرته إلى أعمالنا ويحكم عليها فإنه في نفس الوقت يحكم علينا نحن، فننكشف للعالم ونصبح ملكا له.

هكذا حوَّلت الوجودية فكرة الموت من الإتجاه الذي لا يرى فيه إلا النهاية والعدم، الى اتجاه آخر أساسه انكشاف حريتنا أمام العالم والوجود، يقول هايدغر “إذا قبلت الموت في حياتي واعترفت به وواجهته مباشرة، سأحرر نفسي من قلق الموت وحقارة الحياة، وحينها فقط سأكون حرا في ان أُصبح نفسي“.

لقد حاربت الفلسفة الوجودية النظرة السلبية لفكرة الموت، حيث قد تصل بالانسان هذه الفكرة -في بعض الأحيان- الى ان تغطي الجانبين الدياكروني والسانكروني (الدخلاني والبراني) من تفكيره، فتشل إرادته وتحد من حركته، وتقف عائقا بينه وبين الفعل والعمل. وبالتالي استعادت مقولة أبيقور “ما دُمت موجودا فالموت غير موجود، وعندما سيوجد الموت لن أكون انا موجوداً!”.

“الموت”.. لايعني لنا شيئا

محمد رضا العمراني

كاتب و مدون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *