تركيا وفرنسا.. إلى أين

احتدام الصدام الفرنسي التركي بسبب تعارض المصالح

لا يخفى عن كل متتبع للأحداث العالمية أو حتى الاقليمية، كثرة النزاعات التي ما فتئت تطفو على السطح مؤخرا في الساحة الدولية، من الصراع الأمريكي الصيني إلى الصراع الأرمينيي الاذري مرورا بالأزمة المصرية الإثيوبية، قبل أن نصل إلى الأزمة التي تكاد تعصف بالسلم والأمن الدوليين، ألا وهي الأزمة الفرنسية التركية التي بدأت بوادرها زهاء 3 سنوات قبل أن تتفجر على شاكلة نزاعات وصراعات ثنائية إقليمية حول مناطق النفوذ وإثبات الذات.

إن مرحلة الانكماش الأمريكي التي تؤذن بتراجع دور بلاد العام سام في العالم وتركيزه على القضايا المركزية والاقتصادية والذي يوحي لمختلف المحللين السياسيين والاستراتيجيين ببداية نهاية الإمبراطورية الأمريكية كقطب عالمي أوحد، سيخلف فراغا استراتجيا في عدة مناطق حول العالم مما سيؤدي لظهور بؤر ساخنة ونزاعات إقليمية قد تصل إلى حروب طاحنة من أجل ضمان قدم ومكانة دولية في النظام العالمي الجديد الذي بدأت بوادره بالظهور،
والذي سيكون شبيها إلى حد كبير بما كان يعرفه العالم إبان نشوب الحرب العالمية الأولى من صراعات وتحالفات سياسية معقدة.

فقد بدأت كل من الصين وروسيا وتركيا وفرنسا وألمانيا واليابان في التحرك على الساحة الدولية من خلال عدة قرارات سياسية داخلية وخارجية من شأنها تعزيز مكانة هذه الدولة في المستقبل ووضع مصالحها مشتركة على المحك، حيث نرى أن روسيا لم تترد في ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية ومنه التوسع في شرق المتوسط من خلال احتلال سوريا باتفاق مباشر مع نظام بشار، في حين بدأت الصين تحركاتها في بحر الصين الجنوبي وصولا إلى مناوشاتها الدائمة مع الجانب الهندي الحليف الاستراتيجي لأمريكا، قبل أن تفاجئنا اليابان بتعديلات دستورية تتيح لها العودة إلى سابق عهدها وإلى طموحاتها العسكرية.

إلا أن كل هذا لا يعتبر خطرا بقدر ما يوحي به الصراع التركي الفرنسي والذي بدأت تجلياته في شمال العراق قبل أن تصل إلى ليبيا ومن ثم إلى الصراع الأرميني الأذري وصولا إلى أزمة شرق المتوسط حول حقول الغاز والصراع التركي اليوناني الذي تحاول فرنسا من خلاله وضع يدها على موارد الطاقة في المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية.


فرنسا، الدولة الاستعمارية التي لا زالت إلى يومنا هذا تمتص دم وعرق إفريقيا، والتي كانت تخطط لبناء قواعد عسكرية بليبيا وبسط نفوذها على النفط الليبي من خلال دعمها الواضح للخليفة حفتر في تحد صارخ للشرعية الدولية، لم تكن تتوقع أبدا أن تقف تركيا حجر عثرة في طريقها وهي القوة الوحيدة في حوض المتوسط التي تملك القوة العسكرية لمواجهة المد الفرنسي، بل ووصل الأمر بالأتراك إلى التدخل عسكريا وحسم الأمور على الأرض قبل أن يدخلوا مع الروس في مفاوضات تسعى لإرضاء الطرفين، الأمر الذي أزعج الفرنسيين خصوصا أن الناتو لم تستطع كبح جماح الأتراك وهو يرى فيهم الحليف الذي يسعى لإيقاف المد الروسي وسط التراجع الأمريكي في المنطقة؛ لتجد فرنسا نفسها وجها لوجه أمام دولة بحجم تركيا التي لا تتردد في وصف فرنسا بالدولة الاستعمارية والدولة التي لديها قوة عسكرية متهالكة، خصوصا مع فشل كل التدخلات العسكرية الفرنسية في المنطقة وخصوصا في العمق الإفريقي، والذي فتح الباب أمام الأتراك لتوسيع نفوذهم في الصومال وليبيا وصولا إلى مالي التي تعتبر منطقة نفوذ خالصة لباريس، بل وحتى أمريكا وهي القوة العظمى كانت لا تزعج فرنسا في قوت يومها والذي لولاه لأصبحت دولة متسولة لا أقل ولا اكثر.

كل هذا دفع بالفرنسيين إلى الدفع بنشوب حرب بين الأرمنيين والأذريين غير مدركين أن الأتراك قد وضعوا حجر الأساس في منطقة بحر قزوين والقوقاز من خلال تحالف من يسمى الدولة التركية، إضافة إلى التفاهمات الروسية التركية التي تقطع الطريق أمام الفرنسيين؛ الأمر الذي دفع بهم إلى التوجه إلى تفجير الوضع الإقليمي من خلال دعم اليونان إلى الدخول مع تركيا في نزاعات وتصعيد التوتر، ضاربين عرض الحائط العمل الدؤوب للدبلوماسية الالمانية والمصالح الروسية في المنطقة، الشيء الذي يمكن أن ينعكس سلبا على الطموحات الفرنسية التي تتجه نحو حشد تحالفات مع دول أغلبها لا تمتلك حتى الحق في اتخاذ قرارات سياسية داخلية فكيف بالدخول مع تركيا في صراع مباشر -والتي تعتبر ثاني أكبر قوة في حلف الناتو بعد الجيش الأمريكي، الأمر الذي يهدد مصالح الجانب الألماني والروسي اللذان تربطهما بأنقرة علاقات اقتصادية وعسكرية وجيواستراتيجية قوية.


إن الحرب في شرق المتوسط -والتي تدفع نحوها كل من فرنسا والإمارات بوجه الخصوص- لا تخدم مصالح القوى الكبرى كيفما كانت نتيجتها النهائية، الأمر الذي يهدد طموحات فرنسا البائدة، فأمريكا لا تريد تركيا ضعيفة ما سيسمح بتمدد الروس، وروسيا لا تريد تركيا ضعيفة ما سيسمح بسيطرة الشركات الأوروبية على حقول الغاز بشرق المتوسط واستغناء أوروبا عن الغاز الروسي ما سيعتبر سقوطا اقتصاديا واستراتجيا للروس أمام أوروبا، بينما يعلم الكل أن القوة العسكرية الفرنسية المتهالكة إلى جانب كل من اليونان لن تستطيع حسم أي حرب مع الجانب التركي بل إنها قد تؤدي إلى توسع تركيا على حساب اليونان واسترداد حقوقها التاريخية، ما سيحشر فرنسا في الزاوية أكثر فأكثر مما هي فيه الآن من تراجع سياسي واقتصادي وعلمي وعسكري، وأكبر دليل على ذلك أن الدول المؤثرة عالميا كأمريكا وبريطانيا لا تكيل هَما للمسألة رغم أنهما تمتلكان قواعد عسكرية وأساطيلا بحرية في منطقة النزاع، إلا أنهما كمن يترك الأعمى يتجه إلى قبره.

تركيا وفرنسا.. إلى أين

Exit mobile version