كفوا أيديكم عن الطفولة

قصة واقعية على هامش قضية الطفل عدنان

رحمك الله يا عدنان أيها الطفل البريء المغدور، إن نارك مشتعلة في قلب كل مواطن مسلم غيور على أبناء وطنه، بل إن هذه الجريمة الشنعاء التي ارتكبت في حقك أثرت وأدمت أفئدة كل الذين عرفوا معنى الرحمة والتعاطف وحملوا شعارات تقول: “لا للعنف ضد الإنسانية ضد الطفولة، لا للظلم ونعم للعدالة وللحق”.

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه علينا يا ترى هل سنقتص لعدنان ولغيره من الأطفال الذين سالت دماؤهم غدرا واغتصبوا وهضمت حقوقهم؟ ترى ماذا بعد تعزية والدي عدنان وتشييع جنازته؟ هل سينسى وسيطوى ملفه للأبد؟ هل الوحش الذي ارتكب الجرم البشع في حقه سينال عقابه الحقيقي والذي يطالب به كل من اكتوى بنار قتل عدنان أم أن الحيوان المكبوت سيدخل زنزانته وسيخرج منها كبراءة الذئب من دم يوسف؟

في تدوينتي هذه تذكرت حادثة قديمة أيام التسعينات -حدثت لولدي الذي أصبح اليوم -ما شاء الله ولله الحمد- شابا مكتمل الرجولة، كان أنذاك في سن السابعة أو الثامنة تقريبا من عمره، ناديت عليه من شرفة البيت حيث كان يلعب تحت المنزل -وكنت بين الفينة والأخرى أراقبه من تلك الشرفة ناهية إياه حتى لا يبتعد عن أنظاري- ناديت عليه باسمه بصوت عال مرتكبة بذلك خطأين: الخطأ الأول هو أنني أسمعت صوتي وندائي النسوي بصوت عال لكل الملأ وهو ما كان ينهاني عنه دوما زوجي، والخطأ الثاني هو ما سبب في الحدث الذي لم يخطر لي على البال ولم أتوقعه في مخيلتي أبدا، هتفت بصوت صاخب: “اذهب يا ولدي واشتر لي الحليب من البقال ولا تطلب مني النقود فالباقي منها لا زال عند صاحب الدكان هو سيعطيك الحليب ويرجع لك ما تبقى من النقود”.

توجه طفلي ناحية الدكان منفذا تعليماتي بالحرف، لكن هنا حدث ما حدث ووقعت الواقعة والتي لم تخطر على بالي، تبعه شخص لم يخطر لي في الحسبان وشد بيده البريئة وهم يسأله محاولا أخذ بعض المعلومات ولو أبسطها، كي يستعملها كحيلة ذكية تقنع البقال وكأنه شقيقي يعني خال ولدي وذلك بهدف اقتنائه جميع المتطلبات والتي سوف يبيعها في محل آخر. ولج الدكان بصفته خال ولدي وطلب له الحليب ثم أعطاه للصغير وأمره بمغادرة المكان كي يخلو له هو الميدان ويتكلم مع صاحب المحل بكل حرية. وفعلا اعتقده البقال المسكين وصدق بكل سهولة أنه أخي قائلا له: “انتظرني من فضلك سأكمل لك بعض المواد من حانوت جاري لأنني ولسوء الحظ لا أتوفر عليها.” رد عليه الشخص: “على مهلك، سأغادر لقضاء غرض ثم أعود لاقتناء ما طلبته”.

عاد الشخص الغريب إلى الحي حيث أقطن ليلتقط معلومات أخرى عن مكان سكناي بالضبط، ولحسن حظه وجد طفلة جارتي تلعب وفي وقت متأخر في عتبة بيتها، وقد أخبرتنا هذه الأخيرة فيما بعد عن كل الأسئلة التي طرحها عليها الغريب، منها أين يسكن فلان -يعني زوجي- إلخ … كان غرضه الوحيد هو ألا يسقط موضع شك أحد، وكأنه واحد من عائلتي. فأصبح كما قال امرؤ القيس في قصيدته: “مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدْبِرٍ معًا” ولكن ليس كالحصان بل كالحمار حيث أمر طفلين أخوين يكبران ولدي بما يقرب ثلاث أو أربع سنوات -كانت أمهما المسكينة لا زالت في مقر عملها- طلب منهما أن يرافقاه إلى الدكان بنية أن يحملا معه البضاعة ولم ينسى الغريب بأن يستأجر سيارة أجرة كبيرة وأمر من صاحبها أن ينتظره تحت بيتي بخطوات قليلة حتى لا يراه الجيران، ثم تابع هو والطفلان سبيله باتجاه البقالة والتي تبعد عن حيي بمسافة قصيرة.
وفعلا وجد كل المواد الغذائية التي طلبها موجودة بل وأكثر من ذلك أمر صاحب المحل أخاه أن يرافق- من سمى نفسه أخي- أن يحمل معه الأغراض باتجاه منزلي، أجل فقد كان صاحب الدكان كريما وبما أننا من زبنائه المخلصين، فقد أدى معروفه مع المزعوم أخي بكل لطف وكرم وحسن نية. اقترب الغريب من بيتي وكان باب المنزل مفتوحا وكنت أقطن في الطابق الرابع بينما حماتي تسكن الطابق السفلي وربما لم تنتبه حين دخل أحد أحفادها وأهمل إغلاق باب بيت العائلة. طلب أخ صاحب الدكان أن يساعد الغريب في حمل الأغراض إلى طابقي الرابع لكن الشخص تصرف بكل هدوء وطمأنينة ورفض المساعدة. كانت سيارة الأجرة تنتظر وما أن غاب أخ صاحب المحل عن الأنظار حتى نزل حمل الطفلين الآخرين معه البضاعة إلى السيارة والتي أقلتهم باتجاه شارع معروف توجد به خزائن كبرى للمواد الغذائية، حيث باع هناك كل ما اختلسه وحين طالب صاحب سيارة الأجرة حقه قال له: “عد إلى الحي وسوف يرشدك هذان الطفلان إلى المحل الذي اقتنيت منه كل المواد فأنا اتفقت معه وسوف يؤدي لك واجبك كله”. قرأ صاحب سيارة الأجرة فيه الأمان، وحمل معه الولدين اللذين كادت أمهما تفقد عقلها لغيابهما، فقد عادت إلى بيتها والساعة كانت الثانية عشرة ليلا.

رفض البقال كليا تسديد حق صاحب سيارة الأجرة، وأرسله إلى منزلي كي يطالب بحق أجرته. رن جرس بيتي وخرجت حماتي ثم نزل زوجي وتبعته أنا واستيقظ الجيران، وتوضحت الحقيقة وعرفنا وقتها أن القصة وما فيها أن هذا الغريب هو لص مختلس في العديد من الأحياء وقبضت عليه أخيرا الشرطة والتي ساعدها صاحب سيارة الأجرة، إذ قصدوا المكان وهو مخزن للمواد الغذائية أعيد فيه بيع تلك المواد المسروقة. صليت لله كثيرا وحمدته وشكرته وقلت في قرارة نفسي: “الحمد لله الذي أنعم علي وعلى تلك الأم المسكينة برد فلذات كبدنا إلينا سالمين معافين”.

أوردت هذه القصة وأنا أشعر بكبد والدة عدنان وأكباد أمهات أخريات غير أم عدنان تتقطع وتكوى بنار عودة أجساد أبنائهن جثثا بلا أرواح، تخيلت وقت إخبار أم عدنان أن روحه غادرت جسده بل والأكثر من ذلك نبش جسده وإفساد لحمه وكأن وحشا غمس أظافره فيها، اهتزت روحي من مكانها أحسست بجسدي كله يرتعد وقلبي يدق بطريقة مسرعة وعادت بي الذاكرة إلى التسعينات حيث واقعة ولدي وافترضت أن ابني- لا قدر الله- قتل أو اختطف واغتصب..

أجل شعرت اليوم بآلام أم عدنان وبحرقة كل والدة فقدت وليدها، تخيلت ابني الذي هو اليوم شاب في مقتبل عمره هو عدنان أو أحد من أولئك الأبرياء، الذين التهمتهم الوحوش واغتصبت نقاوتهم وحرمتهم من مواصلة نموهم أمام عيون من ربتهن وسهرت على رعايتهن، وحلمت وانتظرت وصولهم إلى مرحلة الشباب كي تفرح بهم.

إن الجرم والاغتصاب كان منذ زمن بعيد في العالم برمته لكنهما اليوم تضاعفا واستفحلا، خصوصا في أوطان عم فيها السكوت والتغافل عن الحق؛ اختفت فيها العدالة والقصاص، وسادت فيها فقط الفوضى وكثرة الثرثرة بدون فوائد.
إن فيروس اغتصاب الإنسانية من الواجب حسم الأمر فيه، علينا أن نجد اللقاح الناجع لهذا الوباء، هذا الفيروس من العار أن نضع عليه كمامات ونفرض على كل واحد سولت له نفسه واقترفت يداه الملطختان بدم المظلوم جرما شنيعا مجرد حكم يخول له بعد ذلك الانسلاخ من زنزانته والعودة إلى اقتراف ما هو أبشع وأخطر، وننتظر مكتوفي الأيادي.

هذا الفيروس إن تركناه ينتشر سيسهل عليه إبادة كل الأوطان، أكيد إذا لم نقم باستئصاله فسوف يأتي يوم حتى وإن نحن عثرنا على اللقاح فسيكون الأوان قد فات لأن العدوى لا تستقر على حال وهي تفتك وتلتهم كل ما تلقاه في طريقها. دعونا نعيش عصور الحق والعدل، اتركونا نرفع أعلاما شعارها نحن لا نخشى في الحق لومة لائم؛ ديننا دين السلم والأمان فلماذا لا نشعر أبناء أوطاننا بذلك ونحن نجعل من مجرمينا عبرة لكل من يعتبر.

عزاؤنا هو عين الله التي لا تنام، حيث يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (الآية 48 من سورة الطور).

كفوا أيديكم عن الطفولة

نادية حجاج

ربة بيت، مدونة مغربية قاطنة بالديار الإسبانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *