وطن في منفى الخراب

رثاء على المجد الراحل والسمو المنكوب

أنا أعيش في وطن فقط، في وطنٍ حيث الشمس تتربع في عرش السماء، حيث أشعتها الدافئة تناجي أرواح الجرحى وفاقدي الحياة، أعيش حيث المجتمع يرقد ناسياً ما يجب فعله حين يتوجب ذلك وفي المقابل يستيقظ مهرولا وثملا في يده الهراوة فيكسر رؤوس المفكرين وأكابر الألباب، يُفقد المنتشين بالكتبِ لذة الانتماء إلى الصفحات والجرائد ويُحمّل المخطئ وِزر أفعاله حتى وإن تاب عنها، لتبقى بذلك راسخة في ذهنه فيذهب إلى العمل صباحاً ليجدها معلقة على حائط ورشته، وحين يعود مساء إلى بيته يجدها مفروشة في البهو كالبساط، وحين يرتشف من كأس الشاي يشعر بمذاقها اللاذع، وحين يخلد إلى النوم يجدها قد انتظمت في أحلامه لتفقد بعد ذلك أحلامه هوية الحلم وتصير كوابيسا تقض مضجعه، فيستيقظ مذعورا ويركض تجاه المطبخ، يفتح الثلاجة ويتناول قنينة الماء البارد ثم يسكبه على وجهه الشاحب ويشرب باندفاع شديد فيشعر بطعم الخطأ الفارط وكأنه ممزوج بالمياه؛ يحمل القنينة ويعْرضها على منبع الضوء ليتأكد من صفائها، ثم تتهيأ له قطرات الإثم ممزوجة بالمياه، فيعود إلى سريره خائبا منهزما أمام مجتمع لا يصفح وكأنه معصوم من ارتكاب الآثام.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أنا أعيش حيث مصطلح “السكيزوفرينيا” قد بات منتشرا بين زقاق المدن وحدود البلدان والبحار وسماء الوطن العربي، إذ ليس هناك في مدينتي شارع يخلو من الفصام.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هذا العالم قذر وقذارته قد شقت عنان السماء، أنا لم أمر بعد بما يكفي من التجارب لأكون صانعة أحكام لكن هناك حقيقة واحدة تروج في كل شارع من شوارع وطني العربي وهي أن العالم قذر للغاية ولا شيء فيه يثيرني أو يزيد من إصراري على البقاء بداخله. جرائم القتل والاغتصاب، الحروب والمجازر، التعذيب قبل القتل، الفقر المميت، بائعات الهوى والعشق المزيف، القلوب الممزقة، الطغاة وذوو النفوذ الذين يحاولون إشباع نزواتهم بامتصاص أرواح الضعفاء والهزال وصعقهم بتيارات الاستبداد.. ضمور الأنفس وخروجها من باب الطاعة وامتثالها للشقاوة والنرجسية المطلقة.. ما عاد العالم يروق لي أيها الصديق وما عدتُ أستحسن فكرة الوجود على كوكب الأرض.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وطني أرض الغرابة؛ فهناك الأخ وهناك الرفيق، هناك اليمين وهناك اليسار، هناك الاختلاف في كل الأفكار وهناك دحض المواهب وتكبيلها بسلاسل العُرف، هناك ما يسمى بالأصول فقد تتعرض للطعن في حين كان لديك انتماء لعرق أو قبيلة أو ناد رياضي أو أية فكرة كيفما كان نوعهاَ.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أعتذر عن أوصافي الغريبة لكن لا عائق أمام الحقيقة، الحقيقة التي تم طمسها وتغطيتها بقماش من الأكاذيب والأوهام، فعجبا لوطن كان فيما مضى أيقونة التقدم والجلال والآن ها قد غزتنا ثقافتهم واستوطنت فينا الكيان، فظهر منا من يعادينا وأصبحت ضمائرنا تشمئز من أوضاع أوطاننا؛ فقدنا السلام، اندثر الأمن وسحق الإبداع ورجم العقل العربي بجلاميد الاغتيال، كُبّلت فنونه بأغلال من الحديد الذي لا يصدأ ولا ينكسر مهما توالت الأيام.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

لقد كنت جالسة فوق صخرة من حطام بيتي، ذلك البيت الذي شهدت بناءه كما يشهد الطفل الصغير نمو زهرته التي غرسها منذ ظهور أول برعم أخضر، فتمر ثواني الرتابة وتتعاقب فصول السكون، إلى أن تندثر أوراقها لتتلاعب بها الرياح وكأنها لم تخلق يوما.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أجل على هذا المنوال فقدنا منازلنا وخسرنا الأقضية وخسرنا الوطنَ بجنوبه وشماله وضفافه المخضرة ربيعاً والمزدانة بمروج الحب، افتقدنا التجول بين زقاق المدن والمشي بطلاقة وترديد القصائد الجميلة التي تغنت بها دواوين جيل الأدباء. أما اليوم، فلا نثرٌ حميدٌ ولا أشعار تُثلجُ الفؤاد؛ الماثلة أمامنا هي قصائد الحزن المنظومة بأبيات الاحتلال والمنتهية بالقوافي السوداء، نرددها بصوت واحد رثاء على المجد الراحل والسمو المنكوب‬.‬‬‬‬‬‬‬

وطن في منفى الخراب

Exit mobile version