شخصياتٌ رضعت البطولة من نهر النيل وتنفست الشهامة من هواء أرض الكِنانة #18

الصَّعيدي الذي مَثَّل الإسلام في اليابان

يمرّ قطار التاريخ لعظماء أمة الإسلام بعجلاته، اليوم، على صعيدِ مصر؛ في عام 1906م، كان هناك شيخٌ أزهريّ اسمُه “علي الجرجاوي“، الذي انتفضت جوارحُه عندما قرأ خبر دعوة رئيس وزراء اليابان لعلماء وفلاسفة العالم وكل أصحاب الديانات لكي يجتمعوا في طوكيو في مؤتمر عالمي يتحدث فيه أهل كل دين عن قواعد دينهم وفلسفته، ومن ثَمَّة تختار الحكومة اليابانية ما يناسبها من هذه الأديان ليكون دينا رسمياً للبلاد.
عندها أسرَع بطلنا الصعيدي إلى شيوخ الأزهر يطلب منهم التحرك السريع لانتهاز هذه الفرصة الذهبية لنقل دين محمد إلى أقصى بقاع الأرض، لكنه لم يسمع إلا عبارة: “ربنا يسهل إن شاء الله”، وكلنا نعلم أنها في أغلب الظن تعني “انسَ الموضوع”..
وبالفعل، لا حياة لمن تنادي؛ حينها انطلق بطلنا إلى قريته وباع خَمس أفدنة من الأرض كانت جُل ثروته، لينفق على حسابه الخاص مصاريف تلك المغامرة العجيبة، والتي انتقل فيها من الإسكندرية إلى إيطاليا، ومنها إلى عدن، ثم إلى بومباي في الهند، ثم إلى كولومبو، فسنغافورة، يليها هونج كونج ثم سايغون في الصين، ليصل أخيرا إلى يوكوهاما اليابانية. رحلةٌ بحرية لاقى فيها أهوالاً ومصاعبَ ليجد نفسه مع شيوخٍ أتوْا من الهند وتونس وتركستان وروسيا على نفقتهم الخاصة، إضافة إلى علماء أتراك أرسلهم الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني.
هكذا، تَكوَّن وفد إسلامي ضخم حمل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليابان، وقد شرح الوفد تعاليم الدين الحنيف  لليابانيين بشكل بسيط وموجز. ليُعلن بعدها الإمبراطور لكل الوفود أن حرية الدين مكفولة في اليابان.
ويصف الجرجاوي ما قاموا به في اليابان في كتابه، قائلاً: “فلو كان المسلمون أرسلوا وفودهم إلى اليابان قبل هذا الأوان واستعملوا هذه الطريقة التي استعملناها لكان عددهم الآن بالملايين لا بالألوف، أما الذين اعتنقوا الإسلام على أيدينا فبلغ عددهم نحو الإثني عشر ألفاً”.
 

قاهرُ التتار

في معركة “عين جالوت”، لم ينقذ الإنسان المصري المسلم الإسلام فحسب من خطر التتار، بل أنقذ البشرية بأسرها من شرهم بعد أن رزقهم الله قيادة حكيمة تجلت في الملك التركي المظفّر “سيف الدين قُطز”.
وتبدأ قصة التتار سنة 603 للميلاد من شرق آسيا؛ عندما ظهر رجل أطلق عليه التّتار اسم “جنكيزخان”، والذي يعني باللغة المنغولية “قاهر العالم”.
وقد كان التتار بقيادة هذا الرجل يقتُلون كل كائن حي يجدونه أمامهم، وكأن قصدَهم إفناء النوع وإبادة العالم، لا قصد المُلك والمال، واستطاعوا بناء إمبراطورية كبيرة امتدّت من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً ومن سيبيريا شَمالاً إلى كمبوديا جنوبا.
وفي سنة 1258م دخَل التتارُ بغداد، أكبر مدينة في العالم آنذاك، وقتلوا مليون مسلم خلال أربعين يوما فقط، وأصبح الطريق أمامهم مفتوحا لتدمير الكعبة بعد أن احتلوا الشام؛ وعندها حدَث شيء عجيب!  بَعث الله للأمة الإسلامية رجلا عُرف في التاريخ بـاسم سيف الدين قطز، ومن عجائب القدر، أن التتار هُم مَن صنعوا قطز، ويمكنك العودة إلى الكتاب لمعرفة تفاصيل علاقة التتار ببطلنا.
الأهم أن المسلمون قد تقدموا بقيادة سيف الدين قطز نحو أرض فلسطين لملاقاة التتار واستطاعوا هزيمتهم في مدينة غزة الفلسطينية في معركة “عين جالوت” الخالدة، لتعلوَ راية الإسلام إلى الأبد.
يقول الكاتب إنّ سِرّ اختياره لقطز ليكون ضمن قائمة المائة عائد إلى انتصاره في معركة عين جالوت التي أنهت الزحف المغولي إلى الأبد، وإلى ما هو أهم من ذلك، ألا وهو قدرة هذا الرجل بمفرده على تغيير حال أمة بأسرها من قمة الهزيمة إلى قمة النصر، كل هذا في أحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، هي كل مدة حكم سيف الدين قطز!
 

سلطان العلماء

بطلُنا الشيخ العز بن عبد السلام هو سلطان العلماء وبائع الأمراء، المجاهد الهمام، رمز العزة والسلام، مغربي الأصل، شامِيُّ المولد ومصريُّ الممات.
والمفارقة العجيبة أن هذا الشيخ لم يطلب العلم إلا متأخرا، وظل الشيخ يَثني الرُّكَب فى مجالس العلماء حتى بلغ من العلم مبلغا عظيمًا، فأصبح إمام الجامع الأموي في دمشق.
في ذلك الوقت، سمح  أمير دمشق للصليبيين بدخولها وشراء السلاح والتزود بالطعام، فاستنكر العز بن عبد السلام ذلك، وقال في آخر في خطبة له في دمشق “اللهم أبرم أمر رُشدٍ لهذه الأمة، يعز فيها أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك”.
ثم نزل من المنبر دون الدعاء للحاكم، فاعتبرها أمير دمشق عصيانًا له فسَجَن العز في خيمة بجانب خيمته. وبعد أن أطلق سراحه، هاجر الشيخ إلى مصر ليُكرمه السلطان نجم الدين أيوب ويجعله إمام جامع عمرو بن العاص بالقاهرة.
في أحد الايام، تيقن الشيخ العز بن عبد السلام من وجود حانة تبيع الخمور في القاهرة، فخرج إلى السلطان نجم الدين أيوب، وقال له “يا أيوب، ما حُجّتك عند الله إذا قال لك ألم أبوّئ لك مُلك مصر ثم تبيع الخمور؟”، فقال السلطان أن ذلك من زمان أبيه، فقال له الشيخ: أأَنتَ مِن الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟  عندها أمَر السلطان بإغلاق تلك الحانة، وعاد الشيخ إلى تلاميذه سعيدا بما حصل، فسأله أحد التلاميذ كيف أنه لم يَخَف من السلطان، فابتسم الشيخ وقال: “والله يا بني إني كلما استحضرت هيبة الله تعالى صار السلطان أمامي كالقط”.
وقد طلب السلطان قطز في فترة حكمه من بطلنا الشيخ أن يخرج فتوى جمع المال من الشعب لتجهيز الجيش، وهنا رفض الشيخ ذلك، وقال له أنه يجب أن يجمع أولاً ذهَبَ ومجوهرات الأمراء حتى يصبح الأمراء في نفس مستوى الشعب، وقتها فقط يستطيع أن يعمل بتلك الفتوى.
ونفذ السلطان سيف الدين قطز ما قاله شيخه، وقد استطاع الشيخ زرع روح النصر في نفوس المصريين لخوض معركة عين جالوت، وكان له مِن الفضل فضلان: التمويل والتشجيع.
 

شيخ الإسلام

في سنة 660 للهجرة توفي العز بن عبد السلام، وبعدها بسَنة ولد الشيخ أحمد بن تيمية، وكأن الله يخبرنا أن أمة الإسلام أمة لا تموت.
وابن تيمية هو سليل عائلة اشتُهرت بالعلم والعلماء، وقد كتب مؤلفات عظيمة يفضح فيها حقيقة أهل البدع، وقد جاهد ابن تيمية ضد التتار بعدما تحالفوا مع الصليبيين لغزو دمشق من جديد، و قد كان ابن تيمية بطل معركة “مَرْج الصُّفر”. وقد بث الشيخ روح القتال والإصرار في صفوف المسلمين بعد أن استطاع تكوين جيش من الشام ومصر.
وقد انتصر المسلمون في معركته، ولعل إيمان الشيخ وحسن تدبيره ومشورته ومواقفه البطولية في أرض المعركة أحد أهم أسباب النصر، علاوة على فضله في جمع الأموال من تجار دمشق لتمويل جيش الدفاع.
وللشيخ ابن تيمية معارك جهادية أعظم من تلك المعركة التي خاضها ضد التتار والصليبيين، ألا وهي مواقفه ضد قرارات السلطان التي عرّضته للسجن المتكرر في حياته لفترات طويلة، كان آخرها بسبب فتواه بتحريم السفر خارج البلاد لزيارة القبور، وهي الفتوى التي كانت تخالف رأي السلطان؛ فأُلقِي في السجن رغم كِبَر سنه ومرضه، والعجيب في الأمر أنه كتب أعظم مؤلفاته في السجن.
وبينما شيخ الإسلام ابن تيمية في سجنه، جاءه جلاّده فقال له: “اغفر لي يا شيخنا فأنا مأمور”. فقال له بطلنا قولة حفظها التاريخ لكي تعبِّر عن كل أعوان الظالمين: “والله لولاكَ ما ظَلموا”.. بقيام الليل وقراءة القرآن، استعان الشيخ على ظلمة السجن، حتى فارَق الحياة في زنزانته.
 

أيها القارئ العزيز، غالبُ الظن أنك عندما ستُنهي قراءة تدوينة اليوم، سيخطُر على بالك ما خَطر بِبالي أنا أيضا، أو ما قد يخطر على بال أي شخص متتبعٍ للمستجدات، وهنا أقصد بلا شك مِحنة علماء وشيوخ السعودية الذين أبَوْا أن يكونوا شيوخ وعلماء السلاطين فكُبْكِبوا في الزنازين ظلماً وعدواناً. لقد تذكّرت محنة الداعية سلمان العودة وعوض القرني وعلي العُمَري والدكتور وليد فتيحي الذين اختاروا أن يكونوا سلاطينَ عِلمهم وسلاطين كلمة الحق.. وأيًّا كانت محنتهم فبوجود الله بجانبهم ستتحول إلى “مِنحة”، ولا شك أنهم سيَرون سلطانهم قِطّاً!

يُتبع..
Exit mobile version