“الميخالا” أو تجار الهامش

البحث عن لقمة العيش في كومة نفايات

أن تستيقظ على الساعة الخامسة صُبحاً هو شيء جيد، لكن في حال كان الغرض من وراء ذلك هو ممارسة الرياضة، أو الخروج في جولة إلى الغابة رفقة كلب أو كتاب. أن تستيقظ باكرا في عز الشتاء هو كذلك أمر شيق، لكن في حال كان الغرض من ذلك عشوائيا أو طفوليا.

أن تستيقظ قبل أن يستيقظ الآخرون هو طبعا شيء جميل وفريد، لكن إذا كنت ستشعر جراء ذلك بأنك إنسان. لأن هناك أناسا يستيقظون باكرا وعند الخامسة صبحا وفي عز الشتاء وقبل الآخرين، لكن لأسبابٍ مُسبّباتها شنيعة وتأثيراتها غيرُ إنسانية.

يستيقظ، وفي أغلب الأحيان لا يستيقظ، بل يكون متأهباً منذ ساعات، ليَنْقضّ على ما قد يرميه سكان الأحياء العصرية من مهملات: أحذية انتهت مدة صلاحيتها وعلب طماطم وسردين أكل عليها الدهر وشرب، أو سماعات وجوارب: إنها أشياءٌ لم تعد لها قيمة وكل القيمة فيها.

مُرهَقون، يتسارع “الميخالا” على الأسبقية. والأوفر حظا سيظفر بصيد ثمين: في قانون “الميخالا” كل شيء قابل للبيع، وفي دستورهم كل واحد منهم إنسان يعترف أن كرامته سُلبت منه، لذلك تجد في مجتمعهم من السخاء والحب ما قد يلملم جروح الإنسانية برمتها.
متساوون، لا يعتدي صاحب الحزام الأسود على صاحب “النعالة” و لا صاحب الصيد الثمين على المستضعَف: كلهم مستضعفون، مهمشون، معذبون في الأرض.

يجول “الميخالا” ما استطاعوا من الدروب الراقية منها والشعبية، حتى يجمعوا ما تيسّر من السلع، مع عدم الحرص على نوعية وجودة السلعة، فسوقهم لا عملة له، كما إنه سوق منصف، و بإمكانه سد رمق الزبون، الذي هو مستضعف أيضا وربّما يكون غير ذلك، فهناك من سكان الأحياء الراقية من يرتاد ساحة “الميخالا” طمعا في ما يعثرون عليه من أشياء نفيسة قد يجهلون قيمتها لسبب أو لآخر.

يُمضي “الميخالا” وقتا كبيرا في البحث في القمامات عن سلعهم، فيبذلون بذلك جهدا كبيرا ويستنزفون القليل من الطاقة التي غالبا ما تستحوذ عليها طاقة السموم التي يتعاطونها: المخدرات.
كل ذلك الجهد تقريبا هو من أجل التزود بالمخدرات والقليل من الغذاء الذي لا يكفي لسد ثغرات حَفرت على محياهم من أثر الجوع وسوء التغذية، حتى إن الطعام يصبح مطلبا ثانويا أمام علبة سجائر أو قطعة شوكولاطة كولومبية.
و عندما تتحدث مع أحدهم، تتسابق الدموع إلى مقدمة مقلتيك، فيردعها أسلوبه في الكلام، و شجاعته في تدبير الأمور. قد يهزمك بابتسامة عريضة، أو بعبارة أسلاف مأثورة، أو بلا لا شيء: يهزمك.

“الميخالا” لا يبكون، لقد جفّت الدموع من عيونهم المنكسرة ولم يتبقَّ لهم سوى جهاز تنفسي يزود القلب والشرايين بالقليل من ذرات الأوكسجين: لا سبيل للبكاء في عالم “الميخالا”، السبيل الوحيد الذي تبقى لهم هو الاستيقاظ باكراً ..

كريم الحدادي

في الواقع، أنا لا أملك شيئا أقلق لشأنه، إلا إنني جزء من القلق الذي ينتاب العالم. أو ربما أكون سببا في ما يعانيه العالم من ضجر. في هذه الحالة سأكون أكثر الناس قلقا على وجه البسيطة، لسبب واحد، ألا وهو إنني لا أقوى على تخليص الوجود من حصتي في القلق.

إن العالم لم يوجد لكي ترتكب فيه الجرائم، أن تعيش في الشارع هو أكبر جريمة ضد الإنسانية. حتى الإنسانية أثقل كاهلها ولم تعد تقوَى على البوح بما يعيش في باطنها من حب وكرامة وعدالة. لقد طغى الشر على الخير وأقنعَهُ بجدارته، و صدّقنا نحن ما يجري و تغاضى الإنسان عن توابع الجهل والبُخل: إننا سنُحاسب على هذه اللامبالاة العميقة، و هذا الإهمال المفرط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *