ابن تاشفين والنّاصر وبن الأفطس.. “يا زمان الوَصْل بالأندلس”! #12

عزيزٌ في زمن المَذلة.. المتوكل بن الأفطس
عظيمُنا بطلٌ مسلم، المتوكل بن الأفطس، مَلِكٌ ظهَر في زمن “الطوائف”، وهي فترة الضعف والتفرق في الأندلس.
ولكي نقيسَ مدى عظمة المتوكل بن الأفطس، علينا أن نعرف حقيقة الوضع الذي كانت عليه الأندلس، لقد كانت منقسمة إلى 22 دويلة، يحكمها ملوك من العرب والبربر والإسبان المسلمين، فسادٌ وضعف وتشرذم أوصل الحال بالملوك أن يُغِير كل واحد منهم على أخيه، فانقسمت كل مملكة إلى دولتين.
وأصبحت بذلك الأندلس لقمة سهلة لمملكة قشتالة الصليبية في الشمال، وسقطت “طليطلة” أعظم مدن الأندلس تحت قبضة الملك ألفونسو السادس.
وفي الوقت الذي دفع فيه جميع ملوك الطوائف الجزية للصليبيين مقابل البقاء في كراسِيهم، وأبى منهم ملك واحد فقط أن يعطي الدّنِية في دينه، وهو ملك مملكة البرتغال “بطليوس”، الملك البربري المتوكل بن الأفطس.
وهذا الموقف وحده يكفي لكي ينضم إلى قافلة المائة العظماء في هذه الأمة.
ولم يكتفِ ابن الأفطس بعدم دفع الجزية فحسب، بل بعث رسالة قوية يرد فيها على ألفونسو:
وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مُدَّع في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتوافرة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن له جنودا أعز بهم الإسلام وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعزّة على الكافرين (…). أما تعييرك للمسلمين فيما وهي من أحوالهم فبالذنوب المركومة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك لما أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى بناته إليه. أما نحن فإن قلّت أعدادنا وعُدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف، تشهد بحدها رقاب قومك (…)، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل اللّه فيا لها من جنة، وفي اللّه العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت ويقطع بما أعددت.
فما أنْ قرأ ألفونسو السادس رده حتى عرف أن هذا الرجل ليس من نفسِ معدن ملوك الطوائف، فرجع بجيوشه إلى “قشتالة”، ليظل المتوكل بن الأفطس الوحيد بين ملوك الطوائف الذي لم يدفع الجزية البتة! إنه فعلٌ عزيز في زمن الذلة.

 

ابن تاشفين.. زعيم “المرابطين” الذي دخل الأندلس 3 مرات
في قلب حصار الملك ألفونسو، أرسل أمير إشبيلية المعتمد بن عبّاد رسالة كتبَ على ظهرها: “والله لئن ترجع لأروحَ لك بمروحة من المرابطين.”
وما إن سمع ألفونسو باسم المرابطين حتى ولّى الأدبار ورجع إلى دياره مخافة أن يستنجد المسلمون بالمرابطين الذين ذاع صيتهم في مختلف أرجاء العالم في ذلك الوقت.
وبالفعل تلقى زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين رسالة الاستنجاد من الأمير بن عباد باسم ملوك الطوائف. وابن تاشفين، بطلنا الثاني، وهو أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتوني، قائد وأمير مسلم وَحَّد المغرب وضمّ الأندلس تحت مُلكه وسلطانه. تولى إمارة دولة المرابطين واستطاع إنشاء إمبراطورية مغربية تمتد بين مملكة بجاية شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، وما بين البحر المتوسط شمالًا حتى السودان جنوبًا.
دخل ابن تاشفين الأندلس للمرة الأولى بعدما استنجد به ملوك الطوائف كما ذكرنا آنفاً، وخاض معركة “الزلاقة الكبرى” ضد جيوش قشتالة وليون التي كان يقودها الملك ألفونسو السادس، فاستدرك المسلمون بهذه الواقعة الأندلس من الضياع. وفي عام 481 هـ، اجتاز ابن تاشفين البحر إلى الأندلس للمرة الثانية؛ فحاصر حصن “لييط” واستولى عليه، وفي عبوره الثالث استولى على الأندلس الإسلامية كاملة عام 496 هـ 1103 م، وضمها لدولة المرابطين.

 

عبد الرحمن الناصر.. يا زمان الوَصْل بالأندلس!
بطلنا الأخير هو عبد الرحمن الناصر بالله، أعظمُ ملك عرفته أوروبا في القرون الوسطى، وهو أقوى مَن حكم الأندلس في تاريخها منذ بداية الفتح الإسلامي وحتى سقوطها، وفترة حكمه التي سبقت فترة حكم ملوك الطوائف بسنوات كانت أزهى فترة للمسلمين في الأندلس، فلقد اهتم هذا العظيم الإسلامي بنشر العلم في أرجائها لتصبح نسبة الأمية بين صفوف المسلمين في الأندلس تساوي صفرًا بالمائة!
هذا المَلك قام بتوسعة جامع قرطبة ليصبح أكبر جامعٍ في العالم في وقتها، جاعلًا من قرطبة قبلة لطلاب العلم والعدل في العالم بأسره، فقد نشر الناصر بالله العدل في أرجاء الخلافة الأموية في الأندلس، فتوافد اليهود والنصارى المضطهدون للعيش عند المسلمين في قرطبة بكل أمان وحرية، وتقاطر العلماء المسلمون وغيرهم من أرجاء البلدان الإسلامية إليها، فأصبحت قُرطبة ثاني أكبر مدينة في العالم من حيث عدد السكان (بعد بغداد حاضرة العباسيين)، وبُني في قرطبة ثلاثة اَلاف مسجد، وازدهر العلم وتطورت فنون البناء، وصُممت الحدائق بأشكال هندسية عجيبة.
لأول مرة في تاريخ الإنسانية، أصبحت قرطبة حاضرة المنصور أول مدينة في العالم تُنار كل شوارعها ليلا، فكانت قرطبة الإسلامية كالجوهرة المضيئة في ظلمات أوروبا الغارقة في الجهل والظلام، فأرسل الأوروبيون البعثات العلمية لبلاد المسلمين، ولأول مرة في أوروبا ظهرت المستشفيات والمكتبات العامة في أرجاء الدولة الإسلامية، وبنى الخليفة عبد الرحمن مدينة “الزهراء” والتي اعتُبِرت أجمل مدينة في العالم، فلقد بناها علماء المسلمين بطريقة عجيبة وهي مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى على الحد الأوسط، وسطح الثلث الأوسط على الثلث الأسفل، وكل ثُلُث منها له سور، فكان الحد الأعلى منها قصورًا يعجز الواصفون عن وصفها، والحد الأوسط بساتين وروضات والحد الأسفل فيه الديار والجامع، وبُنِيَت بمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسنًا وإتقانًا، فكثرت الأموال واتسع نطاق الخدمات والعلاج المجاني، وانتشر التعليم المجاني حتى إنّ طالبي العلم كان يُخصص لهم راتب شهري.
ولأول مرة في تاريخ الانسانية، أيضاً، أدخل المسلمون نظام الرعاية للمسنين فبُنِيت دور للعجزة ووُظِّف فيها من يقوم بخدمتهم، وبنيت دور لرعاية الحيوانات، وأقيمت المصانع العسكرية والموانئ البحرية، وازدهرت الصناعات الحديثة في أرجاء الخلافة في عهد الناصر، وامتلك المسلمون أقوى جيشٍ عرفته أوروبا في القرون الوسطى، فجاءت وفود ملوكهم من كل حدب وصوب بالهدايا الثمينة وبأموال الجزية إلى الخليفة الناصر في قرطبة.
وإليكم نصيباً من زمن الوصل بالأندلس..
من جورج الثاني إلى الخليفة المسلم ملك إنجلترا وفرنسا ملك المسلمين في مملكة الأندلس والسويد والنرويج صاحب العظمة والمقام الجليل:
وبعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات فى بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج الفضائل لتكون بداية حسنة فى اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم فى بلادنا التى يسودها الجهل من أربعة أركان.. ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز تتشرف بِلَثْم أهداب العرش والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وحماية الحاشية الكريمة، ولقد أرفقتُ مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب.
من خادمكم المطيع، جورج ملك إنجلترا“.

 

يُتبَع ..