مراجعة كتاب عن العفو والانتقام

من كنوز الفلسفة الرواقية

عن العفو والانتقام كتاب للفيلسوف الرواقي الروماني لوكيوس أنايوس سينيكا، من ترجمة دار آفاق، ويضم رسالته عن العفو وكتابه “تأليه كلاوديوس المقدس”.

تتألف رسالة “عن العفو” من ثلاثة كتب آخرها مفقود. يدور الكتاب الاول عن أهمية العفو كفضيلة يجدر بالحاكم -كما بالإنسان البسيط- التحلي بها، فقد تعود بفائدة أعظم على الشخص مقارنة بالانتقام؛ كما أنها تنطوي على معنى من معاني إنسانية المرء وتنأى به عن الوحشية والتمادي في العقاب. والانتقام والسعي إليه هو دليل على نفس تعاني ضررا حقيقيا.

تنطلق الرواية من مبدأ أن الضرر الذي يصدره الآخر لا يتعلق إلا به، وتنادي بحب القدر، إذن فالسعي وراء الانتقام يظهر علة في طريقة تفكيره ومعالجته لواقعة والأمور التي يقوم بها الآخرون، والتي خارج منطقة تحكمه، المنطقة التي يحث الرواقيين على تقبلها، أو ببساطة أن لا نلقي لها بالا.

كما يشير سينيكا في رسالته هذه الموجهة إلى نيرون إلى أن اللطف وسيلة للأمن، فالحاكم المحبوب أفضل من الحاكم الذي يهابه الناس، لأن السلوك النابع من الكراهية والعقاب المفرط قد يعدل سلوك البعض، لكن في الوقت نفسه يولد كراهية عامة من الجميع. وأن العنف للحاكم الجيد خيار لا يستثمر إلا للضرورة عكس الطغاة الذين ينغمسون في العنف على سبيل المتعة. بالإضافة لهذا، يجب على الحاكم الجيد أن يتانى في إصدار الأحكام، فالعقاب المتسرع عقاب ظالم غالبا، واللهفة على العقاب وبسط السطوة عبر العنف فعل شائن، يصدر عن نفس مريضة، لا تمتلك حكمة الحاكم، وسرعان ما ستجد نفسها بين الأعداء الذين خلقتهم بهذا السلوك القاسي وغير الحليم، وتصير بهذا هدفا بغيضا ومكروها لكل هؤلاء الأعداء.


“الروح العظيمة تستلزم التسامح من مكانة السلطة الأسمى.”


ولم يغب عن سينيكا الإشارة إلى ضرورة تفادي الغضب، الذي يؤدي إلى القسوة عادة، وهناك إشارات عديدة إلى رسالته “عن الغضب” والتي صدرت في كتاب يحمل نفس العنوان عن دار آفاق.

في الكتاب الثاني يؤكد سينيكا على مفهوم العفو، ويؤطره ويميزه عن مفاهيم أخرى كالشفقة. فالعفو عند سينيكا هو “ميل العقل نحو الاعتدال في فرض العقاب”، وبهذا فهو لا يعني نفيا للعقاب، أي مغفرة، إذ أن المغفرة سلوك لا يليق بالحكيم.


“إن المغفرة تمنح لمن ينبغي أن يعاقب، ولا يفعل الحكيم شيئا ينبغي أن لا يفعله، وبالتالي هو لا يحول عقابا ينبغي أن يفرض.”


فالعفو هو ميل للاعتدال، وهذا لا يناقض الصرامة، بل يناقض القسوة، التي تخلق الطغاة. لكن العفو يرجو الوصول إلى الحكم الأعظم عدلا، والحكم الأعظم عدلا ليس المغفرة الكاملة، وليس القسوة البغيضة.

كما يندد سينيكا بالشفقة، باعتبارها شعورا ينبثق من مشاعر آنية تأخذ بعين الاعتبار الظاهر فقط من الأمور، ويرفض أن يتم الخلط بينها وبين العفو. فالشفقة رد فعل ينبع من جهل الأسباب، لكن العفو سلوك عقلاني وميول إنساني نحو الاعتدال.

الكتاب الثالث -المفقود- من الرسالة كان من المفترض أن يقدم للقارئ السبل التي يمكن أن تساعده على التحلي بفضيلة العفو.

تأليه كلاوديوس المقدس هو كتاب ينسب لسينيكا وفيه هجاء للإمبراطور الروماني الطاغية كلاوديوس، الذي تم تأليهه بعد وفاته. والكتاب يسرد بشكل مسل كيف تم استقبال كلاوديوس في السماء، وكيف نبذ من مجمع الآلهة وكيف أعيد إلى العالم السفلي وأصبح مصيره خادما.

الكتاب جميل رغم أنه مليء بالمقدمات والنصوص حول الفيلسوف، الرواقية والحقبة التاريخية التي كتب فيها والتي ترتبط بشكل وثيق بالأحداث، والتي تشغل قرابة نصف الكتاب؛ لكنها مفيدة طبعا ومستحبة.

وقراءة الفكر الرواقي مفيدة كذلك، فالسؤال المحوري لهذه الفلسفة هو: “كيف تعيش حياة طيبة؟”، وهو سؤال جدير بأن يطرحه كل فرد، وأن يبتغي أفضل إجابة أيا كان مصدرها، ويستمر في البحث وتحديث معارفه وسلوكاته؛ وهذا جانب عملي، قريب من الجميع، وطيب للفلسفة.

مراجعة كتاب عن العفو والانتقام

هاجر مسرور

طبيبة حديثة التخرج. قارئة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *