جدلية الدين والعلمانية في الدول العربية

لقد ظل النقاش حول موقع الدين من السياسة واحدا من أكثر القضايا الساخنة والمتنازع عليها، فإذا تأملنا في واقع المجتمعات العربية بدى أننا إزاء وحدة الفكر والممارسة أي أننا في حالة استقرار، غير أن تبرير ذلك سرعان مايضمحل ويصبح تعليله من ضروب الخيال. 
إن إشكالية العلاقة بين الدين والعلمانية يضع المتتبع والملاحظ لأطروحة كل اتجاه في حيرة من أمره حيث أضحى النقاش الذي لا تتوقف رحاه بين المفكرين والنخب ينصب في جزء كبير منه على الكيفية التي يجب أن تدار بها السلطة وطبيعة الحكم وعلاقة كل هذا وذاك بالدين باعتبار المجتمعات العربية في جلها مجتمعات يعد الإسلام أحد محددات الهوية داخل نسقها. 
لايجادل أحد بأن المجتمعات العربية لازالت تفقد البوصلة نحو عقلنة السلطة وطرق تدبيرها، إذ أن المرور إلى الديمقراطية يتطلب إحداث قطيعة بين الدين والسياسة باعتبارهما أمران متعارضان ومتضادان في نظر البعض، وفي المقابل يرى البعض الآخر أن أزمة الديمقراطية لا يمكن أن تحل خارج السياق الديني، أي السياسيات الدينية والاستناد إلى مبادئ الإسلام في تدبير السلطة. 
إننا ونحن نحاول أن نقف عند العلاقة بين الدين (الإسلام) والعلمانية في المجتمعات العربية قد نجزم أن هناك علاقة صراع، إنه صراع لا ينضب ويبرز بشكل جلي ولايمكن أن يفهم إلا داخل النسق التنافسي الإيديولوجي ولايتم عرضه إلا في الحالة التي تقتضي تدعيم الحجج حول الشكل الناجع للخروج من الأزمة والوضع الحالي. 
إن الفشل السابق للإيديولوجيات العلمانية في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين (القومية الإشتراكية على وجه الخصوص)، أحدث فراغا فكريا في السياسة داخل العالم الإسلامي، الشيء الذي حتم بروز حركات إسلامية، عملت من خلال سلسلة من الوسائل على استثمار التجربة الإسلامية في تدبير السلطة -نموذج الرسول والصحابة- وقد حققت ثمارا ونتائجا تعد إيجابية،وهو الأمر الذي أثار فضولا وقلقا إزاءها باعتبارها قوة منافسة للمشروع العلماني، وهكذا تمكنوا من تحقيق انتصار ساحق ووجدو أنفسهم مضطرين إلى المشاركة في تدبير الشأن العمومي. 
لقد كان كل من الإصلاح البروتستانتي والحروب الدينية في أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، حدثا محوريا بلا شك في التطور التاريخي للعلمانية الشيء الذي يفيد بأن مخرجات كل ذلك عدت مؤشرا لتطويع وتطويق الدين وفصله عن الفضاء العام على النحو الذي بينه مارتن لوثر” حكومتين منفصلتين، واحدة روحية تضبط وتشكل المسيحيين الحقيقيين وحكومة علمانية تضبط غير المسيحيين والأشرار وتجبرهم على الحفاظ على السلم الخارجي”، هذا دون أن ننسى الثورة الفرنسية التي عدة منطلقا مركزيا لتطور العلمانية، من هنا تبدو العلمانية بدورها حمالة وجهين الأول؛ تجسده العلمانية الناعمة والتي تفصل بين الدولة والدين بشكل مرن، وينبغي عليها أن تحافظ على موقف من عدم التمييز تجاه الدين ،ويوجد لهذا النموذج صدى داخل الدول الأنجلوساكسونية التي تحولت إلى دول علمانية بعد إحداث إصلاح ديني دون الخضوع لنوازع الصراع والحرب مع رجال الدين. الثاني؛ النسخة الصلبة يتم الفصل بين الدين والسياسة بشكل قطعي لايدع مجالا للدين في السياسة ويشترط في النقاشات والمداولات السياسية أن تخضع خضوعا تاما للعلمانية فقط وهو النموذج الذي يكرسه النظام الفرنسي. 
أمام كل هذا يبقى السؤال المطروح: إلى أي حد يمكن للمجتمعات العربية استيعاب المشروع العلماني؟ وفي حالة عدم الاستيعاب ماهي العوائق التي تواجه ذلك؟ لن نستبعد الفرضية التي تتجه نحو رفض العلمانية ولو بشكل نسبي نظرا لردود الأفعال التي تسير على نهج يتردد كلما سنحت الفرصة يجد سنده في الاستياء منها، فأن تكون علمانيا في نظر البعض يعني أن تُبيذ الإسلام، وأن تتخلى عنه لا من حيث العقيدة وحسب، بل يعني أنك قد نبذت أخلاق الإسلام وتقاليده وقواعده الحاكمة للمجتمعات الإسلامية، ومن ثم فقد فهمت العلمانية باعتبارها غربية وأجنبية تماما عن العناصر المكونة للشخصية المسلمة، وباعتبارها استسلاما تاما لعدم الإيمان، وانعدام الأخلاق وكراهية الذات وباعتبارها إنكار للهوية التاريخية وللحضارة التي ورثها المسلمون من أسلافهم العظام. لم يقف هذا الإستياء عن هذا الحد بل امتد إلى مفكرين وجدوا صعوبة في تقبل العلمانية بشكلها الحالي ودعوا إلى تجنب ذلك، حيث لم يتردد الأستاذ محمد عابد الجابري بقوله ” اقترحت الاستغناء عن شعار العلمانية وتعويضه بشعاري العقلانية والديمقراطية ذلك لأن العلمانية تعني في مضمونها ثلاثة أشياء:1-الفصل بين الدولة والكنيسة 2-العقلانية النقدية 3- الممارسة الديمقراطية في كافة مجالات الحياة، ويتابع المفكر المغربي “… وواضح أن العقلانية والديمقراطية مفهومان لا يدخلان في تكوين فصل الدين عن الدولة، ولا هذا الفصل يدخل في تكوينهما، خصوصا والإسلام يعلي من شأن العقل ويتخذ من الاجتهاد مصدرا للتشريع، كما يعلي من شأن الشورى وهي، بالكيفية التي مورست بها زمن الخلفاء الراشدين، الديمقراطية نفسها كما كان من الممكن تطبيقها في ذلك العصر.ولا شيء يمنع من تطبيق الشورى اليوم بالصورة التي تستجيب ظروف عصرنا،أعني صورة الديمقراطية الحديثة “. 
يبدو أن طرحا كهذا أفسح المجال للنقاش وجعل بعض المفكرين يعارضوا النحو الذي أكده الأستاذ محمد عابد الجابري خاصة مع استناد السلطة العربية في تكريس اللاديمقراطية على المشروعية الدينية، الأمر الذي يؤكده المفكر السوري جورج طرابشي الذي يرى بأنه لابديل للسير قدما -نحو الديمقراطية- عن الانخراط في المشروع العلماني ويدعم أطروحته هاته باستحضار جزء من ممارسات الرسول والخلفاء ويعدها في نطاق الفصل بين الدين والسياسة(العلمانية)،وبغض النظر عن هذا الطرح تبقى عوامل أخرى مساهمة في رفض العلمانية في العالم العربي(الإسلامي) أبرزها؛ التخوف من العلمانية الصلبة(النموذج الفرنسي) التي شنت حربا على الرموز الدينية وحظر ارتداء الحجاب…إضافة إلى الاستياء من علمانية أتاتورك، فقد بدا لهم من خلال ذلك أن هذه الأخيرة أيدولوجيا عقابية تعمل على الإضرار بالحقوق المدنية والإنسانية للمسلمين. 
يبقى في الأخير المعول عليه لتجاوز هذا الجدل فتح النقاش داخل الفضاء العام بشكل عقلاني، يضع حدا للصراع في أفق الانفتاح على ثقافة الحوار وتقبل الآخر حتى وإن كانت الغلبة سترفض أطروحة من الأطروحات التي بينها على نحو سابق، نظرا لصعوبة تبيئة أي شيء يقر بفصل الدين عن المجال العام داخل المجتمعات العربية لا من قبل عامة الناس فقط، بل حتى من قبل مفكرين قضوا نحبهم في البحث والتنظير. وأختم مقالي بمقولة للمناضل الشهم المهاتما غاندي “إن من يعتقدون بأن الدين يمكن أن ينفصل عن السياسة لايفهمون ماهو الدين ولا ماهي السياسة”. 
 
المراجع المعتمدة:
 محمد عابد الجابري: مسألة الدين والدولة في الإسلام، سلسلة مواقف العدد68.
 جورج طرابشي: بذور العلمانية في الإسلام، الأزمنة الحديثة العدد6-7.
 نادر الهاشمي: الإسلام والعلمانية والديمقراطية اللبيرالية: نحو نظرية ديمقراطية للمجتمعات الإسلامية
 

سفيان جرضان

طالب باحث تخصص القانون الدستوري وعلم السياسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *