حتى الأشياء تبكي

في جلسة مسائية في أحد المقاهي مع صديقة لي، وصلنا فجأة خبر بأن صديقا لنا قد توفي. نالت منا موجة عارمة من الحزن؛ كيف لشخص جالَسنا قبل أيام قليلة أن يغادر فجأة هكذا، والموجع أكثر أنه لم يكن يعاني من شيء، شاب صحيح الجسد وفي أزهى سنين عمره، كان يخبرنا عن الفتاة التي يفكر في خطبتها قريبا، لكن يبدو أن ذلك لن يحدث هنا فوق الأرض أبدا.

بعد صمتنا المطول نطقت صديقتي وقالت: “يعلم الله بحال عائلته وخطيبته!!” وصمتت لأكمل أنا: “ويعلم الله كيف حال أشيائه الآن”.
رمتني بعدها صديقتي بنظرة متسائلة عما أقول لعلها تفهم شيئا من سرحان عيناي بعيدا بحزن فقلت: “اليوم تبكيه عائلته وتندب حظها في خسران فقيدها، تزغرد في جنازته لأنه شاب رحل قبل عرسه، اليوم تزفه عائلته عريسا وهي تمشي بجانبه وتضعه في قبره، بينما تبقى أشياؤه هناك وحدها، لا أحد يعانقها، لا أحد يسأل عن حالها”.

وأردفت: “تلك ساعته لن تعانق يده بعد الآن وتلك قنينة عطره لن تعطره بعد اليوم، تلك ملابسه تبكيه لأنه يوم الفراق، وذلك حذاؤه لن يسير معه مرة أخرى، ذلك سريره سيشتاقه وتلك حقيبته لن تستطيع توديعه.
هل تفكرين الآن بأن الكل سيطبطب على كتف الآخر حتى يطول الزمن وينسى، بينما ستبقى أشياؤه يتيمة بعده، لا أحد يمسح دمعها، ولا أحد ينظر لوحدتها، الكل يرى أشياء ثابتة بينما هي تبكيه كل ليلة، كطفل تم نزعه من بين يدي والدته وتم وضعه عند عائلة أخرى، حتى لو أحبته العائلة الأخرى فسيبقى الفقد فقدا خاصة عندما لا يجف الدمع ولا يُنسى الألم”.

نظرت إلي صديقتي بدون أن تفهم وبدون أن أصمت أنا، وأكملت: “آه لو يدري معطفه المخبأ في قاع الخزانة المنتظر أن يحل فصل المطر والرياح بأقرب وقت، آه لو يخرجه أحد اليوم ويخبره عما حدث، المسكين سيكون آخر من يعلم وسيكون الوجع حينها قد خبي في قلوبهم، بينما هو سيسمع الخبر لأول مرة وسيندب الحظ الذي جعله آخر من يعلم فلم يحصل على آخر عناق ولا على قبلة وداع، ولا حتى أن يمشي في عزائه؛ لم يحصل حتى على خطبة وداع.
يا صديقتي حتى الأشياء تبكي، قد تتعجبين مما أقول وتستغربين لأننا دائما ما نفارق أشياءنا ونبيع سيارتنا فما الفرق بينهم”.
تابعت: “يا صديقتي أقول لك بأن البيع يشبه طلاق شقاق، طلاق بالتراضي، يذهب الزوجان كل واحد منهما في طريقه لصنع حياة جديدة بينما تذبل رائحة شريكه القديم لتحِل محلها رائحة جديدة، ذلك هو الفراق مع أشيائنا، بينما الموت هو شيء آخر.

الموت أن تفارق بدون وداع، بدون أن يسأل شخص عن حالك، أن يكون من الواجب عليك أن لا تنهار، أن تبقى ساكنا في محلك بدون دمعة، بدون عناق، أن يتم نزعك بدون حتى أن يسندَ كتفك أحد.

هل يمكنك أن تري بأن سيارته مازالت تقف في نفس المكان تنتظره ولن يأتي ليخبرها أحد، ستكتشف ذلك وحدها بينما يخرج الناس من بيته يبكون. تنتظره لتسأله من رحل لكنها لا تراه؛ تنتظر وتنتظر حتى يأتي أحد ما ويأخذها؛ لن تعود المسكينة من صدمتها كما كانت من قبل.
نعم، ساعته لن تدق دقاتها بعد الآن كما كانت، قنينة عطره لن تكون بنفس الرائحة، وقبعته لن تصد الشمس كما كانت تفعل، حذاؤه لن يركض كما كان يفعل وسيتمزق في أقرب وقت، ووشاحه لن يعانق أحدا كما كان يفعل.

يا صديقتي حتى الأشياء تبكي، وحدنا نحن من نهتم بنا فقط.

حتى الأشياء تبكي

سمية الطالبي

أكتب منذ زمن، منذ تعلمت الكتابة و أنا أخط خواطر تنبعث من داخلي، من أين لا أعلم هي فقط تظهر فجأة من العدم، هذه أنا.

‫4 تعليقات

  1. يا سلام على الإحساس..
    الموت.. ذلك الشيء الحتمي. أسلوب رائع
    الله يعطيك الصحه. اتمنى لك التوفيق والنجاح و المزيد من الكتابات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *