رواية عشاق الصحراء-دراسة في التيمات الجمالية-الجزء2

فإذا أردت أن تسافر في القلب النابض بالصحراء، أن تتوغل كثيرا في صحراء التاريخ أو في تاريخ الصحراء، فما عليك سوء امتطاء رواية عشاق الصحراء.
من جهة أخرى تصور زبيدة هرماس بشكل جميل ومتقن تضافر الجميع من أجل محاربة ومقاومة المستعمر، فحتى الجمال والرمال والواحات والصحراء وضعوا أيديهم في أيدي المقاومين الفرسان والأهالي في توافق بديع، كل بطريقته وبمنهجيته وعلى سجيته.
وفي الرواية يتشابك البعد السياسي بالاجتماعي بالنفسي بالديني والفكري، في تشابك بديع، ومعمار فني راقي ولغة ساحرة تنهل من عبق الحضارة المغربية، والمعجم اللغوي منتقى بامتياز، كما تلمح الرواية إلى الاختيار الريادي والعاقل للمقاوم المغربي رغم معاناته من تبعات الشروط الاجتماعية والسياسية التي فرضتها طبيعة المرحلة.
إننا أمام رواية متميزة من حيث حبكتها؛ سواء على مستوى الشكل أو المضمون، وفرادة القبض على موضوع غير مسبوق في التناول الأدبي بهذا الشكل الروائي، وبهذه الاحترافية ذات القدرة التصويرية الدقيق داخل المغرب.
فصاحبة “عشاق الصحراء” ولجت الرواية باعتبارها جنسا أدبيا مشاكسا يحتاج إلى نفس سردي متمكن على مستوى الآليات الشكلية وتقنياتها، وعلى مستوى المضمون بما يستدعيه من غنى على المستوى المعرفي، وعلى المستوى الإبداعي بما يعنيه من امتطاء صهوة الخيال، في حبكة تتطلب كثيرا من مهارات النسج والخياطة والتطريز لصياغة اللوحة الروائية الأكثر جدبا ورسوخا في كيان القارئ ووجدانه.
ولا شك أن إبداع نص روائي بصيغة تاريخية ليس أمرا يسير المطلب وفي هذا الصدد تقول الأستاذة فوزية حجبي “يحتاج الروائي لكي يصوغ إنتاجا متميزا، وهو يتوسل بالأزمنة والشخوص والأحداث، يحتاج إلى زاد معرفي ودراية ثاقبة بأرشيف التاريخ معجون بزاد لغوي مرن. ويستكشف أغوار الأمس لينفث الحياة الأفضل في حاضر الحياة.
وتتبدى هذه “الملاءمة الجمالية” في التساوق الشائق بين الأحداث التاريخية التي تحكي عنها الرواية، وإلباس هذا التعقيد لبوسات التجريد الفني الروائي، الشيء الذي أضفى عليها هذا الميسم الجمالي وانصهار الأفق الجمالي.
وإذا كانت رضوى عاشور ترى أن كل الروايات تاريخية بمعنى من المعاني، باعتبار للرواية علاقة خاصة بالتاريخ تُميّزها عن بقية الأجناس الأدبية، وشخصياتها فاعلة في واقع تاريخي بعينه يشكّلها وتتفاعل معه، فقد كان المعول عليه من طرف الروائيين هو مساوقة هذه المعطيات التاريخية وفق قوالب جمالية تحفظ لهذا الجنس جماليته، وهذا ما نسجله في رواية عشاق الصحراء التي استطاعت في شكلها ومضمونها أن تضمن قدرا كبيرا من السحر الروائي لقرائها، إنها رواية لاصطياد التفاصيل المنسيّة برؤى سردية رفيعة المستوى.
وقد شكلت رواية “عشاق الصحراء” جرأة ومغامرة إبداعية للروائية زبيدة هرماس في الاختيار والطرح والمقاربة، وقد اتخذت الكاتبة من التاريخ مادتها الأساسية لصوغ خيوط عملها الفني، فهي لم تنقل التاريخ بقدر ما ساوقته مع شخوصها مستحضرة مناخات تلك المرحلة المشكلة لبنية روايتها، التي يحمل عنوانها “عشاق الصحراء” دلالة خاصة في توجيه النص الروائي، لأنه يمثل مجموع هذا النص ويلخص مجمل موضوعاته، فالكاتبة لم تعين بطلا لروايتها، إذ إن كل شخوص الرواية أبطالا رجالا ونساء و أطفالا، في إشارة إلى الدور البطولي الذي لعبه معظم المغاربة في مرحلة الاستعمار.
عشاق الصحراء رواية ملحمية، وقصة سنوات طويلة من الخيال الخصب، والسحر، والفانتازيا، هي سنوات من كتابة التاريخ الصحراوي بتفاصيله وموروثاته، هي بمنزلة زمن طويل من الاكتشاف والانفتاح نحو العالم الخارجي، هي حكاية جاءت بها زبيدة هرماس من عالمها السحري الخاص، وحوّلتها بأدواتها السردية الممسوسة إلى واقع حقيقي.
يقول “فرانز كافكا”: “الكتابة انفتاح جرح ما”، والكاتبة لا شك فتحت جروح الماضي الصحراوي بكل آلامه وآماله، إننا أمام رواية كتبت بشغف وبالتبع يجب أن تقرأ بشغف.
فحين يسكن المكان الذاكرة، فالذاكرة نفسها تصبح سكنا للمكان، والصحراء المغربية لا شك ينطبق عليها هذا التصور فهي علاوة على أنها جزء من بلاد الأمة المغربية، فهي أيضا ذاكرة حبلى بالأحداث التاريخية، والرواية، ليست سردا فقط، بل هي هدير عاصف، وهذيان جامح وصاعق، ترهق قارئها، تفككه وتعيد بناءه، تزحزح مفهومه للمواطنة، للكتابة، للتخييل، للذاكرة، للمقاومة، للخيانة، للحب، للصراع، للتعاون، ومع تقدم السرد، نكتشف أن المقاومة “لعبة” صعبة، بعيدة عن كل تبسيط ساذج، الرواية في حد ذاتها فلسفة في مفهوم الاستقلال، مرافعة من أجله، صدح بصوت عالي، يعيد خلخلة هذا الكائن الضوئي، يحفر عميقا في مناطقه الغائمة.
 

بنيونس عليوي

طالب باحث في اللسانيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *