رواية عشاق الصحراء-دراسة في التيمات الجمالية- الجزء 1

تستلهم كاتبة عشاق الصحراء “زبيدة هرماس” أحداث روايتها من تاريخ الأقاليم الجنوبية المغربية وتؤطرها زمنيا فيما بين فترة الاستعمار الإسباني إلى اليوم مرورا بحدث المسيرة الخضراء من خلال حياة أفراد أسرة صحراوية فرقت بينهم السبل، فإثر وفاة الزوجة التي كانت خادمة في بيت جنرال إسباني ونزوح الأب (سالم) إلى سوس، ترعرع أبناؤهم الثلاثة الذين تأثروا في بداية حياتهم بالثقافة الإسبانية في كنف أعمامهم.
ليتشتت الأبناء بدورهم في خضم الظروف السياسية للمنطقة؛ ف(محمد) الذي قطع أشواطا في النهل من منابع العلم الديني سيصبح إمام مسجد، إلى أن تم احتجازه في مخيمات تندوف بعد فخ نُصب له، أما (مصطفى) فقد غدا من كبار التجار، ولا همّ له سوى جمع المال، بينما (مولود) سيرحل إلى إسبانيا ليُمسي من المدافعين الشرسين على أطروحة الانفصال، إلا أنه سيقرر غداة زيارته للأقاليم الجنوبية ومعاينته لما تم تشييده من منجزات كبرى العودة إلى الوطن بعد أن وضع خطة هتشكوكية لتحرير أخيه من مخيمات تندوف. تأخذنا كعادتها في رحلة شيقة مزجت فيها بين المعرفة الدقيقة بتاريخ المغرب، والحبكة الدرامية، وتشدك إليها شدا، وأنت تتابع تفاصيل الأحداث كأنك تراها رأي العين، وإن لم تكن ملما بالحقبة التاريخية تضيع منك فصول الرواية، العاصفة، المغامرة، اللقاء، المسيرة، المصير، السفر، العودة، رواية من قلب الصحراء.
هكذا يعود بنا مسارها السردي إلى النزع الأخير من الاحتلال الإسباني للصحراء، ثم تتطور أحداثها وفق وتيرة شبه خطية لتتناول محطات رئيسة وأحداثا مفصلية في تاريخ قضية الصحراء بدءا بالمسيرة الخضراء مرورا بالعودة وانتهاء بالمصير كما تراه الروائية التي استفرغت جهدا ملحوظا في نقل أحداث واقعية إلى ساحة الكتابة الروائية بأسلوب ماتع كسر جفاف تلقي الحدث التاريخي بأسلوب تقريري مباشر لا يثير في النفس متعة التلقي أو لذة النص بتعبير رولان بارت.
وقد تبين لنا أن الرواية التاريخية بمثابة استدعاء للماضي كتعبير عن الحاضر في هذا السياق، يقول محمد أحمد القضاة أن هناك نوعين من الرواية التاريخية: النوع الأول تعيدك فيه الرواية إلى التاريخ بكل تفاصيله وطقوسه، وكأنها تردك إلى الحياة فيه. أما النوع الثاني فإنه يستعيد المناخ التاريخي فقط ثم يترك لنفسه قدرًا من الحرية النسبية داخل إطاره.
أما رواية عشاق الصحراء فهي من النوع الذي يجمع بين العودة الحقيقية للتاريخ لسدّ الثغرات الدرامية، كما سبق ذكره، وبين استدعاء ذلك المناخ للتعبير عن واقع معين في فضاء الرواية.
من هذا المنطلق ظهرت براعة الروائية في تناول قضية الصحراء المغربية أثناء الاستعمار الإسباني الذي كان يعيش على خيراتها ويمنع أهل الصحراء من خيرات بلادهم، إذا نحن أمام رواية تناولت قضية الصحراء المغربية بكثير من المتعة متخللة فصول الزمان والمكان.
وبالانطلاق من عنوان الرواية يتبين أنه تعبير مجازي عن حب جماعي لمعشوقة واحدة، ويبدو هنا الإيحاء بفرادة منزلة الصحراء في قلوب سكانها.
فالروائية على لسان السارد تسرد تفاصيل الرواية بطريقة مُكثّفة وعميقة تضع القارئ في عمق الظروف والتحولات الاجتماعية والسياسية التي ضربت الصحراء إبان الاستعمار الإسباني، مرورا بالمحطات الكبرى في تاريخ هذه المنطقة، ومع تصاعد الأحداث وهبوطها ووصولها إلى ذروتها يكون القارئ على اطلاع تام بالتفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، وتتشكّل أمامه صورة متكاملة للوضع الصحراوي بفضل أبطال الرواية وهم يتكلمون ويتحرّكون ويتفاعلون فيما بينهم، فيسمع القارئ صراخ المقاوم الباسل المدافع عن بلاده، إن هذا النمط من الوصف الدقيق يقتحم تفاصيل الواقع بشكل عميق، ويحيل الحكاية المكتوبة إلى صور بصرية يسهل معها تتبع الأحداث والعيش فيها لدرجة أن يكون القارئ “نفسه” مجرّد شخصية روائية، فالترميم الأدبي للتاريخ في الرواية يضمن للقارئ لذة النص.
إذا عشاق الصحراء طبق روائي دسم، متفردة في بابها بتناولها الملتزم لهذه القضية، إننا أمام رواية قوية للدفاع عن الطرح الوحدوي لقضية الصحراء المغربية، فإذا كان الشعر –كما يقال- نتاج خيال الإنسان فإن النثر نتاج ثقافته وحضارته، وكثيرا مكان معبرا عن آلام الإنسان وأماله، فهو ذاكرة الشعوب، وهذا ما تعكسه سردية الرواية، والناظر فيها بتمعن يتذوق متعة السرد الروائي بمظهر جمالي تاريخي، عبر آلية اللغة.
فمبدعة الرواية تحشد مجموعة من المعطيات الثقافية والتاريخية والحقوقية والاجتماعية للدفاع عن الطرح الوحدوي، دون أن يكون ذلك على حساب النفس السردي الذي يحضر في كل صفحات الرواية، والذي يمنح للرواية روائيتها، وأدبيتها ونقصد العالم الروائي التخييلي بشخوصه ونوازعه ومصائره، ونوازع هذه الشخصيات ومواقفها وصولا إلى الزمن وروح الأمكنة، هي تفاصيل تلامس طبيعة المجتمع الصحراوي.
وقد وفقت الكاتبة كثيرا في صبر مواقف أطراف الصراع وتعمقت وهي تجوس في أفئدة عشاق الصحراء، من جهة أخرى يحسب للكاتبة قدرتها على تصوير ذلك التصارع بين القيم فمثلا الصراع بين قيم المقاومة والاستعمار، الوطنية والخيانة، الوحدة والتفرقة، العدل والظلم، الحب والكره، الحرية والاعتقال… “عشاق الصحراء” رواية تقرأ بتقدير كبير فهي تنتمي لسلالة الأدب الرفيع، الأدب الذي ينافح عن قضايا الأمة؛ الأدب الذي ينظر إلى قضايا الهوية نظرة وحدوية تجميعية، الأدب الملتزم الحامل لأمال المجتمع، فالروية تحقق المتعة والإفادة معا فمن جهة هي رواية بنفسها السردي الأدبي الرفيع وفي نفس الوقت هي وثيقة تاريخية، وبهذا يمكن أن نقول إنها جمعت بين الحُسنيَين.
 

بنيونس عليوي

طالب باحث في اللسانيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *