لكل داء دواء

تعلموا كيف تتعاملوا

تلقت الأسرة نبأ غير مؤكد أن ابنها الصغير ربما يحمل ذاك الفيروس اللعين، ذلك الوباء الذي فتك بالملايين واكتسح العالم كله بشدة خبثه ومخاطر أعراضه والتي زرعت الرعب في قلب الإنسانية جمعاء، ذلك الوباء الذي لم يرحم صغيرا ولا كبيرا، وحتم التفرقة والابتعاد بين الأهل والأحبة، حتم غطاء الأفواه وحصر مرضاه وسجنهم بعيدا عن الأصحاء خوفا من معاداتهم ونقل الفيروس إليهم.

عاد الصغير إلى البيت، كل إخوته يهربون منه ويتفادون مجرد التحدث إليه، اضطر الجميع إلى الابتعاد منه وإلى ارتداء الكمامات حتى داخل البيت. كان الصغير المشكوك في إصابته بالعدوى يعيش وسط أسرته وكأنه كائن منبوذ غير مرغوب بوجوده في البيت. كان كلما اقترب من أحد أفراد أسرته يحس أنهم يهربون منه ويديرون له ظهورهم، اللهم والدته التي كانت تغير له شراشف نومه وتحذره بين الفينة والأخرى كي ينظف يديه قبل وبعد الطعام الذي كانت تقدمه له.

خيم الحزن على الطفل كالصاعقة وشعر بنفسه وكأنه جرثومة سامة ولجت المنزل، وسبب له فرار لحمه ودمه منه كآبة نفسية قوية واصفر وجهه وانطوى على حاله، فكيف لصبي صغير أن يواجه كل هذه التصرفات الأسرية اللامعقولة ونتائج تحليلاته لم تؤكد بعد حقيقة إصابته بالفيروس أم لا؟ وعوض أن يلقى الدعم والحماية والرعاية بين أحضان من أقرب الأهل إليه كي يطمئن ويستمد الأمان والطمأنينة وجد أن أسرته هم مجموعة من الحمقى والمجانين وهم أخطر وقد يسببون له مرضا أخطر من إصابته بالفيروس.

لقد حتمت عليه مؤسسته المكوث في المنزل مدة أسبوع حتى تتأكد من سلامته وطالما لم تظهر تحليلاته التي تنفي عدم إصابته، فهو يمنع منعا كليا من العودة لمتابعة دراسته.

لقد كاد الطفل الصغير أن يفقد عقله، وما ضاعف مأساته هو انسحاب أقرب الناس إليه فالكل يخشى على نفسه من العدوى والجميع يرفض ضمه وكذلك أمه ما عادت تحضنه أو حتى تمرر يديها كعادتها على رأسه الصغير.

ضاع الولد الصغير بين أحزانه فقد شهيته للأكل وطار نومه من أجفانه وفور ظهور نتائج تحليلاته والتي تؤكد عدم إصابته، أغمي عليه ونقلته سيارة الإسعاف نحو المستشفى وأدخل قسم المستعجلات وبعد فحصه خرج الطبيب يخبر للأسرة بأن الصبي دخل في غيبوبة نتيجة فشل في عضلة من عضلات قلبه لذا يستوجب عرضه على طبيب مختص كي يعالجه. أخذه والديه إلى مصحة خاصة وحين كشف عليه الطبيب المختص وبعد إجراء الفحوصات أخبرهم أن الصبي أصيب بنوبة قلبية من جراء صدمة أو حزن عميق أدخله في غيبوبة والله هو وحده يعلم متى سيستفيق منها أم لا. ظل الطفل طريح فراشه مدة طويلة، وعم الأسى العميق بين أفراد ذويه وأصاب والديه وإخوانه الندم الشديد وظلوا يلومون أنفسهم على تصرفاتهم المبالغ فيها اتجاه ابنهم وأخيهم الصغير وتمنوا لو كان الزمن يعود بهم إلى الوراء ليصححوا ما اقترفوه في حق فلذة كبدهم. مكث والديه يرجوان الله ويتوسلان إليه كي ينقذ ابنهما فأصبحت المأساة التي يعايشونها أقوى وأخطر من الفيروس بل أقوى منه ألما وضررا.

شاءت مشيئة الله أن يستعيد الصبي وعيه، فرحت الأسرة فرحا شديدا لذلك، لكن الطفل حين فتح عينيه لأول مرة وهو لا زال بالمصحة رفض كل الرفض العودة إلى البيت مع أهله وظل يصرخ ويقول بأعلى صوته:” أنتم لا تحبونني أنتم تخليتم عني حين كنت في أمس الحاجة لحنانكم ودعمكم، أنا لست ابنكم اتركوني وارحلوا لا أريدكم. لقد خفتم من الموت ولم تخشوا علي أنتم أهلي المزورين غير الحقيقيين“. ظل كل فرد من أفراد أسرته يبكي ويرجوه بكل قوته أن يسامحه لكن الصغير ألح في رفضه مستديرا بوجهه إلى الناحية الأخرى كي لا يراهم، وفي تلك اللحظة أمرهم الطبيب بترك غرفته محاولا تهدئة من روع الصغير. اقترب من مريضه وسأله:” قل لي يا ولدي ما السبب الذي يجعلك ترفض أهلك؟ فأجاب الصغير وهل يتخلى الأحبة عن حبيبهم من أول محنة مع العلم أن إصابتي بالفيروس كانت غير أكيدة؟ ترى كيف كانوا سيعاملونني لو كنت حقا حاملا لذاك الوباء هل كانوا سيرمونني في القمامة؟

قال له الطبيب :” إن الإنسان لا يختار عائلته بل الله سبحانه هو من يقدر لنا أن نولد وسط أسرة والأسرة هي أيضا ربنا من يكتبها لنا فتلك هي مشيئة الله أحببنا أم أبينا وإذا كنت يا ولدي تحب الله فأحب ما اختاره لك وارض بما قدره عليك. حملق الصغير في معالجه وطأطأ رأسه وكأنه يحاول إقناع نفسه بكل ما سمعه من الطبيب.

خرج الأخير من غرفة الصغير بعد أن ربت على رأسه بحنان بالغ واتجه صوب أسرته موجها حديثه إليهم قائلا : “لقد كبرتم موضوع تعاملكم مع الفيروس فوق ما يستحق لدرجة أنكم كنتم ستفقدون صغيركم وهو الذي يظهر أنه أذكى وأشجع منكم بكثير فقد قاوم رفضكم له بكل تحد وعاد لحياته مصارعا الصدمة العنيفة التي وجهتموها إليه برفضكم وهروبكم منه بكل ما فيه من قوة. إن الفيروس القاتل هو التخلي عن أحبتنا ساعة احتياجهم لنا وخصوصا في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها الكون أجمع. نعم يجب أن يكون هناك بيننا تباعد لكن من المفروض أن نحافظ على أحاسيسنا الجياشة اتجاه أهلنا وذوينا وخاصة اطفالنا وعجائزنا وعلينا أن نستعمل الدهاء والخبرة في التعامل معم، لكن بالحب والعطف والحنان، علينا أن ننقد مرضانا لا أن نصيبهم بالإحباط والخوف لأن حبنا واهتمامنا بهم هو أنجع علاج يساعدهم على التشافي والتداوي من كل أذى. ومن الجهل بل من العيب والعار أن يحيط بنا الفزع والرعب حين نسمع أن أحد أقربائنا مسته العدوى، صحيح أنه علينا اتخاذ الاحتياطات الضرورية كي نقي أنفسنا وكي نمنع انتشار الوباء لكن بطريقة ذكية تحسس مرضانا بالأمان ونحن نشرح لهم ما المانع الذي يبعدنا عن بعض قائلين لهم : إن ابتعادنا عنكم فقط بالأجساد لكننا جد قريبين منكم بقلوبنا ولن نحرمكم أبدا من حبنا ودعمنا، إنها فترة من الزمن وأكيد بإذن الله سوف ترحل مثل غيرها من الظروف الوبائية والتي قاومها العالم سالفا ومرت“، وأردف قائلا: ابنكم محتاج إلى حنانكم وعطفكم وليس لخوفكم وإهمالكم، أنتم خشيتم تفشي الفيروس في أبدانكم وهذا بسبب جهلكم وتسرعكم فكدتم أن تفقدوا فلذة كبدكم فيمسكم الندم والحسرة طول عمركم. أفيقوا وتحلوا بالوعي وحنكة التصرف كي تنقدوا كل عزيز عليكم فحمدا لله على سلامة ابنكم الذي أنقذه الله تعالى مرتين مرة من الوباء ومرة من سوء معاملتكم له والتي أوشكت أن تفقده حياته بسبب عدم حسن تصرفاتكم”.

صبي فقط مشكوك في أنه مصاب بالفيروس خلق الرعب في أهله، بدل أن يستمد حبهم ودعمهم، إنه والله للجهل بعينه، تعلموا كيف تتعاملوا مع الداء لأن من خلقه خلق الدواء وإن مرضنا فهو من يعافينا فادعوه هو المستجيب المنقذ.

لكل داء دواء

نادية حجاج

ربة بيت، مدونة مغربية قاطنة بالديار الإسبانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *