الرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية -الجزء 2-

بعد تدوينة أمس التي تناولت، في جزئها الأول، الأسس التاريخية للرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية، نقِفُ في هذا الجزء الثاني، على فهم وتحليل أهم العناصر المميزة للرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية. 
 
ثانياً: الخصائص المميزة للرقابة على دستورية القوانين بالنموذج الأمريكي 
 
تتميز الرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية بخصائصَ مهمة، تجعلها مختلفة عن غيرها من التجارب المقارنة خاصة النموذج الأوروبي، حيث تتحدد طبيعة النظام القضائي في مجال مراقبة دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال أربع خصائص يتسم بها هذا النموذج. 
خاصية الانتشار: 
تتميز الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية بكونها منتشرة، أي أنها غير ممركزة في يد هيئة أو مؤسسة واحدة كما هو الشأن في التجربة الأوروبية، خاصة النموذج الفرنسي الذي يعتمد في مجال الرقابة الدستورية على المجلس الدستوري كهيئة يوكلُ إليها أمر النظر والبت في مدى دستورية القوانين؛ وعليه، فـالنموذج الأمريكي يمتاز عن غيره من النماذج بكون ممارسة الرقابة الدستورية أمر مكفول لجميع المحاكم بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي، فإن لأي محكمة وفي أي قضية تُرفع أمامها تُثار فيها مسألة عدم دستورية القانون المراد تطبيقه في النازلة، يمكن للقاضي نفسه وفي نفس المحكمة أن ينظر ويبت في مسألة المطابقة الدستورية من عدمها، دون أن يرفع الأمر للمحكمة العليا للاتحاد،على أساس أنه اختصاص مكفول لسائر المحاكم ولا ينحصر فقط في المحكمة العليا. 
خاصية البعدية: 
يأخذ النموذج الأمريكي في مجال الرقابة على دستورية القوانين بالرقابة البعدية، لأنها تكون بعد إصدار القانون ودخوله حيز التنفيذ، أي إن القانون لا تثار بشأنه مسألة عدمُ الدستورية إلا بعد احتكاكه بالواقع. وهذا راجع بالأساس، لما أشرنا إليه آنفا من كون الولايات المتحدة الأمريكية تأخذ بخاصية الانتشار بمعنى عدم وجود جهاز يُعنى بالنظر القبلي في المسألة الدستورية، كما هو الشأن بالنسبة للتجارب الأوروبية، ولا يقتصر الاختلاف بين التجارب المقارنة في الخاصية الأولى فقط، وإنما هناك اختلاف آخر على مستوى خاصية البعدية التي لم تكن مطروحة ضمن النسق المعمول به في النموذج الفرنسي؛ وإنما تم الأخذ بها مؤخرا سنة 2008، ليزاوج النظام الفرنسي بين الرقابة القبلية – بشكل إجباري على القوانين التنظيمية وبشكل اختياري على القوانين العادية- والرقابة البعدية من خلال آلية الدفع بعدم دستورية القوانين. 
خاصية الواقعية: 
تقوم الرقابة الدستورية في الولايات المتحدة الأمريكية على أساس وجود نزاع واقعي غير مجرَّد؛ أي ضرورة وجود خصومة ذات وقائع حية وموضوعية حصلت في الواقع المعيش، ويراد تطبيق قانون ما في هذا النزاع، فتتم إثارة مسألة الدستورية من قبل أطراف النزاع، وليس للقاضي أو لأي كان حق إثارة مسألة دستورية القانون عدا الأطراف المتنازعة. وهذا يعني أن الرقابة على دستورية القانون ليست من قبيل النظام العام، على عكس النموذج الألماني الذي يمكّن القضاء من إثارة مسألة الدستورية تلقائياً. 
كما أن النموذج الفرنسي يختلف هو الآخر عن نظيره الأمريكي في مسألة الواقعية، ذلك إن المجلس الفرنسي يقوم بمعالجة القانون بشكل مجرد، في حين أن المراقبة الأمريكية للقوانين تشترط وجود نزاع واقعي بين متخاصمين. 
وتجدر الإشارة، إلى أن هناك استثناءً على مسألة الواقعية في الرقابة الدستورية؛ يتعلق الأمر بما يسمى بالحكم التقريري، لكنه نادراً ما يقع، وتتلخص مسطرة الحكم التقريري في لجوء المواطن إلى المحكمة ليطلب منها إصدار حكم يقرر ما إذا كان القانون الذي يراد تطبيقه عليه مطابقا لأحكام الدستور. ويترتب عن هذا الطلب توقف الموظف المختص عن تنفيذ القانون إلى حين صدور حكم تقريري بشأنه. 
خاصية نسبية حُجِّية الشيء المقضي به: 
بصفة عامة، الأحكام القضائية إذا لم يتم استئنافها أو نقضها في الآجال المحددة قانونا، فإنها تصير نافذة تَحُوز حجية الشيء المقضي به، إلا أن الأمر يختلف في القضاء الدستوري الأمريكي، حيث تكون حجية الشيء المقضي به نسبية على اعتبار أنها لا تلغي القانون (المطعون فيه بعدم الدستورية) بشكل مطلق، وإنما توقفه فقط، أي أنه يمكن لمحكمة أخرى تطبيق نفس القانون التي حكمت المحكمة الأولى بعدم دستوريته، بل يمكن لقاض آخر في نفس المحكمة أن يطبق القانون الذي قضى القاضي الأول بعدم دستوريته، إلا في مسألة السابقة القضائية التي نعني بها الرأي الذي تصدره المحكمة العليا الاتحادية؛ فإنه -بالنظر إلى المكانة التي تحتلها هذه الأخيرة- يتم الأخذ بهذا الرأي من طرف جميع المحاكم الأخرى ويعتبر سابقة قضائية. هذه الخاصية هي الأخرى تختلف عن ما هو معمول به في فرنسا، حيث يقوم المجلس الدستوري الفرنسي بإلغاء القانون من المنظومة القانونية إذا ثبت أنه غير دستوري.
 

شادي ياسين

باحث في القانون العام والعلوم السياسية، حاصل على شهادة الإجازة في القانون العام، ماستر في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ماستر العمل البرلماني والصياغة التشريعية، حاصل على شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، مدون، فاعل جمعوي...