الرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية -الجزء1-

 
تحتل النصوص الدستورية المكانة الأسمى في سلم التدرُّج الهرمي للنظام القانوني، ونقصد بسُموّ الدستور على القواعد الدستورية على غيرها من القواعد القانونية المطبقة في الدولة، وهذا يعني أن أي نص قانوني تصدره مؤسسات الدولة وأجهزتها يجب أن يكون مطابقا للدستور، ولا يمكن لأي جهاز أو سلطة أن تعمل إلا بمقتضى ما حدده الدستور من قواعد، على اعتبار أن الوثيقة الدستورية هي التي أضفت الشرعية على ممارسات السلطة، وعلى هذا الأساس تكون قواعد الدستور أكثر ثباتا من القواعد القانونية العادية، لذلك لا يمكن إلغاء القواعد الدستورية إلا بقواعد أخرى مثلها. 
في هذا السياق، تُطرح ضرورة ملائمة القواعد القانونية العادية مع الوثيقة الدستورية، لهذا السبب أنشِئت فكرة الرقابة على دستورية القوانين، التي تعتبر من أهم الضمانات القانونية الكفيلة باحترام الدستور. وتظهر الحاجة لهذه الضمانة، بصفة خاصة، في الدساتير الجامدة، لأن الدساتير المَرنة لا يُتصور أن تتم فيها الرقابة، كوْنُ هذا النوع من الدساتير العرفية/المرنة يمكن تعديله بنفس الكيفية التي تُعدّل بها القوانين العادية. 
تختلف أنواع الرقابة الدستورية تبعاً لاختلاف الأنظمة السياسية والدستورية المعمول بها في كل دولة، لكن يمكن أن نميز عموما بين نوعين من الرقابة؛ الأولى سياسية والثانية قضائية، كما أن هذه الأخيرة تنقسم إلى رقابة امتناع ورقابة إلغاء. 
في هذا الصدد، سنحاول ضمن هذه المقال، التطرقَ لأحد أهم النماذج التي كرّست مفهوم الرقابة على دستورية القوانين، مُركِّزِين في الجزء الأول منه على المعطى التاريخي الذي ساهم في تشكل معالم هذا النموذج، لنقف بعد ذلك، في الجزء الثاني، على فهم وتحليل أهم العناصر المميزة للرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية. 
 
أولًا: الأسس التاريخية للرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية 
 
تُعتبر الولايات المتحدة الأمريكية الوطنَ الأم للرقابة القضائية على دستورية القوانين، وهو من أهم الابتكارات التي أُنتجت في عالم القانون الدستوري، وذلك بالنظر إلى الصلاحية التي تناط بالمحاكم عامة والمحكمة العليا خاصة. هذه الرقابة ما كانت لتُكرَّس على مستوى الواقع العملي للولايات المتحدة الأمريكية لولا تظافر العوامل التاريخية من جهة، وجهود الفقه الدستوري من جهة أخرى؛ ذلك إنّ الولايات المتحدة الأمريكية -في ظل خضوعها للاستعمار البريطاني- لم تكن تتمتع بأي سلطة غير تلك التي تقررها الدولة المستعمِرة بموجب الأوامر الملكية والقوانين التي يسنُّها البرلمان الإمبراطوري، حيث كانت هذه القوانين تعلو على جميع القواعد التي تسنها برلمانات الولايات. بينما كانت المحاكم التابعة للولايات الأمريكية تمتنع عن تطبيق القوانين التي تسنها برلماناتُها، إذا جاوزت الحدود المرسومة لاختصاصها في الأوامر الملكية الصادرة عن التاج البريطاني والقوانين الإمبراطورية. 
تبعاً لذلك، عندما حققتِ الولايات المتحدة الأمريكية استقلالها عن بريطانيا سنة 1776، حرصت كل ولاية أن يكون لها دستورها الخاص وأن تكون دساتيرها جامدة، أخذت بمبدأ التمييز بين النصوص الدستورية والقوانين العادية، فكان وجه التأثير بالمستعمِر أن كفلت لدساتيرها المرتبة نفسَها التي كانت للأوامر الملكية، فجعلتها بمنأى عن السلطة التشريعية وحمَلت المحاكم على الامتناع عن تطبيق أي قانون يتعارض معها. وهذا ما يفسر كيفية وجود سوابق لرقابة دستورية القوانين قبل قيام الاتحاد الأمريكي سنة 1789، إذ تشهد بذلك الأحكام الصادرة عن محاكم “نيوجيرسي” سنة 1780، و رود آيسلندا سنة 1786، وفيرجينيا سنة 1788 ؛ وكلها تصب في قالب واحد وهو عدم دستورية القوانين. 
هنا، تجدر الإشارة إلى أن التأثر البالغ للولايات المتحدة ببريطانيا على مستوى دستورية القوانين لم يأت من فراغ، على اعتبار أن بريطانيا هي الأخرى شهدت ممارسة رقابية قضائية على دستورية القوانين سنة 1610 مع القاضي “إدوارد كوك”. وهو ما شكل إرهاصات أولية للرقابة الدستورية، أرخى بظلاله على التجربة الأمريكية، لكن المفارقة الغريبة هي أن بريطانيا على الرغم من كونها كانت سباقة إلى العمل بالرقابة الدستورية إلا أنها لم تستمر. 
لقد ظل القضاء الأمريكي متردّدا في مسألة الرقابة على دستورية القوانين إلى أن قام الاتحاد الأمريكي سنة 1789، وجاء دستوره جامدا يتطلب تعديله إجراءات ومِسطرة معقدة وصعبة، أشد من تلك التي يتطلبها القانون العادي فاعتبرت الدستور أسمى القوانين في الدولة، تتقيد به المحاكم في كل الولايات. لكن عدم التنصيص بشكل صريح على الرقابة في الدستور الأمريكي سيُثير نقاشا حول مدى جواز أن تمارس المحاكم الاتحادية رقابة دستورية على القوانين والامتناع عن تطبيقها في حالة التعارض مع الدستور، وظل الخلاف قائما بين مختلف الآراء الفقهية في المسألة، إلى أن حسم القاضي “جون مارشال” النقاش في قضية “ماربري” ضد “ماديسون” في ما سمي بدعوى “قضاة الليل”، حيث رفع ماربري قضية ضد ماديسون يطلب فيها أمرين، الأول أن تقر المحكمة بأحقيته في التعيين، والثاني بإصدار الأمر بالتنفيذ، فقام القاضي جون مارشال بالاستجابة للطلب الأول، لكنه لم يستجب للطلب الثاني مع تعليل ذلك بكون القانون الذي استند إليه ماربري في الطلب الثاني يعطي للمحكمة العليا اختصاصات لا يعطيها لها الدستور نفسه. 
وعليه، فإنه يمتنع تطبيق هذا المقتضى القانوني لكونه يخالف الدستور، فكان هذا الحكم القضائي الأول من نوعه الذي يكرس رقابة دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية، لتتوالى القضايا وتتابَعَ الأحكام التي ستمضي في المنحى ذاته من طرف مختلف المحاكم حتى تأكّد مبدأ دستورية القوانين كضمانة لحماية سمو القاعدة الدستورية على باقي القواعد القانونية الأخرى. 
 
( يُـتبع ..)  
 
Exit mobile version