استِسْهال الكتابة.. أو الكتابة “السائلة”!



يعيش المشهد الثقافي المغربي، سنوياً، على إيقاع فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب، التي دأبتْ على احتضانه العاصمة الاقتصادية، الدار البيضاء، القلب النابضُ للمملكة المغربية.
معرضٌ أكمَل، خلال العام 2019، دورتَه الخامسة والعشرين، ليكتسب مع توالي السنين صِبغة عالمية، ترفعُه إلى مصافّ معارض مشابهة تُنظَّم بالقاهرة أو بيروت وغيرهما من العواصم. وليُصبح، بذلك، ملتقى للناشرين في شتى أصناف الإبداع البشري جامعاً إياهم بجمهورهم أو ليَلمّ شملهُم فيما بينهم.
“دورةُ هذا العام لم تختلف عن سابقاتها”، أو هكذا تناقلتْ معظمُ ألسِنة الزوّار. بدا لهم المشهد وقد اجترّ نفسَه إلى حدٍّ أضحت معه الاحتفالية السنوية للثقافة عامة، والكِتاب والنشر على وجه خاص، طقساً روتينياً مألوفاً.
أروقةٌ انتصبتْ هنا وهناك، وَرشاتٌ للقراءة وتشجيعها باختلاف الأعمار واللغات، ندواتٌ نُظّمت، سواءٌ بغرض تشريح القضايا الثقافية أو اتخذتْ شكل حفلٍ لتوقيع وتقديم آخِر ما جادت به قريحة وأقلام المؤلِّفين من إبداعات موجَّهة إلى جمهور بات متعطّشاً لكل جديد غيرَ آبهٍ بجودته. جودةٌ يبحث عنها الكل لكنها مفتقدة في أغلب الأعمال الصادرة، نظراً للتسرّع في إصدارها أو عدم أخذ أصحابها للوقت والمسافة الكافية من الأحداث والفاعلين فيها.
ذاتَ حديثٍ جمَعني بصديقٍ، عارفٍ بخبايا الصناعات الثقافية في هذا البلد، وبعد عودته من زيارة لمعرض النشر امتدّت يوميْنِ كامليْن؛ سألتُه عن ملاحظاته بخصوص دورة هذا العام، فردّ في برودٍ لا يخلو من تذمُّر: “لا جديد يُذكر، يا صديقي. كل ما في الأمر أن الكتابة الإبداعية تتعرّض، في الآونة الأخيرة، لعملية اسْتِسْهالٍ خطيرة جعلَتْ منها فعلاً ثقافياً صار في متناول العامّة”.
أصابني بالدهشة ردُّ مُحاوَري، الذي صار مِن فَرْط احتكاكه بأصناف الإبداع والمبدِعين سابراً لأغوارهما، فضلاً عن تراكُـماته المعرفية عبر تخصّصه بمرحلة الدراسات الجامعية العليا في اللغة العربية المعاصرة وقضايا النقد. حاولتُ أن أظهرَ متماسكاً قبل أن أردّ معقّباً على كلامه: “متوقّعٌ ذلك يا صديقي، فأغلبُ الآراء والانطباعات عن دورة هذا العام لم تختلف عن ما قلتَه، مُشكِّلةً ما يشبه إجماعاً، رغم وفرة المَعروض من المنشورات كما الزوّار”.
بعد هذا التبادل الحواري الخاطف مع الصديقِ الخبيرِ العارف، تردّدت في ذهني موجاتٌ من الأسئلة عن الحالة الصحية للمشهد الثقافي والإبداعي لبلدٍ أنجبَ مفكرينَ ومثقفين من طينة المهدي المنجرة ومحمد جسوس وعبد الكبير الخطيبي (رحمهُم الله) وعبد الله العروي وعابد الجابري ومحمد سبيلا وطـه عبدالرحمان (أطال الله في أعمارهم وبارك في علمهم)، وأدباءَ (أمثال عبد الكريم غلاب، ومحمد شُكري وزفزاف واللعبي وكيليطو وحمّيش، وآخرون..) بلغ صدى بعض إبداعاتهم إلى العالمية فيما ظلّ بعضُهم مجهولاً لدى أجيال المغرب الصاعدة.
ولعلّ من صميم الأسى والأسف أن التساؤل عن حالة الثقافة والإبداع بالمغرب بقدر ما هو مؤلم بقدر ما يبعث على التشاؤم حول مستقبل الفعل الثقافي والإبداعي، في زمن صعود التفاهة وتقديسها وازدهار الشعْبَوية، التي انتقلت من بُرج السياسة لتدخُل بيوت الناس، وتتحكّمَ في صناعة أفكارهم واختياراتهم وقراراتهم ومن ثمّة سلوكهم وممارَساتهم.
 “الكتابة السائلة”؟
ذهب صديقي لحال سبيله لكني ما لبثتُ أتأمّل مليّاً في ما يمكن أن يسِمَ به مُشاهِدٌ ما بدقة وموضوعية، هذه الحالة التي بات الإبداع في المغرب يعيش على إيقاعها، فلمْ أجد بديلاً عن كلمة “الإسهال” ما دام صديقي قد ذهب إلى حدّ وصف الأمر بـ”الاستِسْهال” الذي يُحيل، لغويًا، على مسؤولية الذات في ذلك. لكن سرعان ما قفزَت إلى ذاكرتي مجموعة “نظرية السّيولة” أو “مجموعة السوائل” التي نظَّرتْ لها أعمال عالم الاجتماع البولندي، والأستاذ السابق بجامعة “ليدز” البريطانية، “زيجمونت باومان” (1925 – 2017)، في ثَمانية كتُب نشرتْها، مترجَمة، “الشبكة العربية للأبحاث والنشر”، ضمن سلسلة “الفقه الاستراتيجي”.
باومان، وفي ثُمانِيَتِه عن السيولة، (من كتابه الأول “الحداثة السائلة” ينطلق “باومان” إلى ما طالته السيولة من الحياة، والحب، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشر)، يرى أن اهتمام البشرية قد تحوّل نحو “الاستهلاك بمعناه العميق للمكان والقيم والأشياء والعلاقات في ظل العولمة”، ليُصبح التحديث المستمر لكل شيء، دون وجود أي غاية من هذا التحديث، هدفاً في حد ذاته.
وإذا كان السوسيولوجي البولندي قد تناول مفهومَيْ “الحداثة” و”ما بعد الحداثة” بنظرة خاصّة، جاعلاً من الحداثة حالة صلبة، ووَصَف مرحلة ما بعد الحداثة بتعبير “الحداثة السائلة”، فـإلى أي حد يجوز أن نتحدّث عن “الكتابة السائلة” بعد تراجع نفوذ الكتابة “الصلبة” !؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *